المحكمة الجنائية الدولية .. محكمة العدالة الانتقائية (الجزء 3)

511
court
Picture of د. محمد أحمد محجوب عثمان

د. محمد أحمد محجوب عثمان

أستاذ القانون العام المُشارك

• عُرض ميثاق روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية أمام الجمعية العامة للأمم المُتحدة بتاريخ 17يوليو 1998م، ودخل حيز النفاذ وبدأت المحكمة عملها في الأول من يوليو عام 2002م وفقاً لمنطوق المادة (126) منه، والتي قضت بسريانه في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين لإيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.

المحكمة الجنائية الدولية واحدة من آليات القانون الدولي الإنساني، ومع ظهورها المُتأخر جداً مقارنة مع بروز أول اتفاقية دولية لذلك القانون في العام 1864م، إلا أننا نجد ظهور ثمة محاولات جادة لإيجاد آلية قضائية تفصل في نزاعات وتجاوزات القانون الدولي الإنساني، لذا فقد رأينا وبعد مرور ثلاثة وعشرون عاماً على نشأة تلك المحكمة ضرورة الوقوف على تلك المسيرة والتطرق لإنجازاتها واخفاقاتها مع التطرق للمحاولات والتجارب التي سبقتها، وحتى لا يمل القارئ الكريم سيتم التناول في سلسلة من الموضوعات.

تناولنا في الجزئيين الأولٍ القضاء الجنائي الدولي في فترة ما قبل الحربيين الدوليتين وما بعدها والمحاكم الجنائية المؤقتة التي شُكلت بعد فترة الحرب العالمية الثانية، من خلال ما طُرح فإننا نرى أنه وغماً عما وجه لها من انتقادات أن تلك المحاكم كانت خطوة مهمة في تاريخ العدالة الجنائية الدولية بإرسائها وتدعيمها لإمكانية محاكمة المسؤولين دون النظر لحصاناتهم أو موقعهم السابق أو اللاحق.  

بعد تجربة المحاكم الدولية المؤقتة ومع استمرار النزاعات المسلحة الدولية والداخلية تنادت الأصوات وتواصلت الجهود الدولية لإيجاد آلية قضائية دولية للفصل في الجرائم الخطيرة والانتهاكات الجسيمة والمستمرة لمبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.

منذ العام 1946م وفي ظل  منظمة الأمم المتحدة  وعلى فترات متفاوتة ظلت الجهود والمؤتمرات تتواصل حتى شهد عام 1989م  قيام لجنة القانون الدولي بمناقشة طبيعة المحكمة الجنائية الدولية المقترحة والأحكام ذات الصلة باختصاصها وقواعد الإجراءات التي يتعين اتباعها أمامها.

في العام 1996م توافقت اللجنة على تحديد أن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة هي جرائم الإبادة الجماعية، العدوان، الجرائم ضد الإنسانية، الجرائم ضد موظفي الأمم المتحدة، وجرائم الحرب.

خلال تلك الفترة قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وقد بدأت اللجنة أعمالها  واستمرت في عمل متواصل لمدة ثلاث سنوات حتى شهد عام 1998م التطور الأهم  حيث عُقد مؤتمر روما الذي شهد الاتفاق على بنود الاتفاقية المنشئة للمحكمة  الجنائية الذي عُرف بنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

شُكلت اللجنة التحضيرية لصياغة مسودة الميثاق من (26) عضواٌ برئاسة الأستاذ الدكتور عبد اللطيف بسيوني، شارك في عضوية اللجنة ثلاثة من السودانيين هما: مولانا الدكتور/ عوض الحسن النور والاستاذ/ عبد الله احمد المهدي المحامي العام الأسبق/ شارلس ماياتي والسفير، شارك في جلسات النقاش عدد كبير من السودانيين، نذكر منهم: المرحوم السفير/ الفاتح عروة، والسفير عمر دهب.  

حضر المؤتمر (160) دولة و (255) منظمة، منها (17) منظمة حكومية و(238) غير حكومية، اجتمعت جميعها لاعتماد مشروع اتفاق روما المشكل للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي عكفت علي وضع مسودته لجنة مشكلة من (26) عضواً ضمت أعضاء من السودان وسوريا ومصر ولبنان.

استمرت أعمال المؤتمر مدة ثلاثة أيام عُرض فيه مشروع الميثاق المؤلف من (110) مادة، طُرح بعد النقاش للتصويت لتكون المحصلة موافقة (120) دولة ومعارضة (21) دولة وامتناع (7) دول عن التصويت ثم عُرض مشروع الاتفاقية للتوقيع ليُحظى في اليوم الأول بتوقيع (26) دولة، ثم ظل باب التوقيع والمصادقة عليه مفتوحاً، حتى الآن (7) دول لم توقع على النظام الأساسي هي: (العراق، اليمن، ليبا، قطر، الولايات المتحدة الأمريكية، اسرائيل والصين).

دخل ميثاق المحكمة الجنائية الدولية حيز النفاذ في يوليو 2002 وفقاً لنص المادة (126) منه.

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية أول هيئة قضائية دولية مستقلة تحظى بولاية عالمية وبمدى زمني غير محدد، لمحاكمة مرتكبي الفظائع بحق الانسانية من جرائم الحرب وجرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الانسانية.

أنشئت المحكمة بموجب المادة الأولي من ميثاق روما والتي نصت على: (تُنشأ بهذا محكمة جنائية دولية، وتكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي. وتكون المحكمة مكملةٌ للولايات القضائية الجنائية الوطنية، ويخضع اختصاص المحكمة وأسلوب عملها لأحكام هذا النظام الأساسي).

من التعريف أعلاه يتضح أن المحكمة الجنائية الدولية عبارة عن كيان دولي قضائي مستقل معني بمحاكمة الأشخاص المتهمون بارتكاب نوع محدد من الجرائم مُحدد بموجب الميثاق وأنها ليست جزءا من الأمم المتحدة حسب نص المادة (2) من الميثاق 

ولا تتبع لأي دولة ذلك أنها أُنشئت بموجب معاهدة مستقلة تم التفاوض حولها في أروقة الأمم المتحدة.

علاقة المحكمة بالأمم المتحدة:

المادة (2) من الميثاق تناولت العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة على النحو الآتي: (تنظم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها)، وفي هذا تأكيد على أن المحكمة شخصٌ من أشخاص القانون الدولي وله شخصيته القانونية التي تُمكَنه من عقد اتفاق مع غيره من الأجهزة والمنظمات الدولية.

مشروع اتفاق العلاقة بين الأمم المتحدة والمحكمة عُرض في أعمال الدورة الثامنة والخمسون للأمم المتحدة في أغسطس 2004م في القرار رقم (318/58) وثيقة الأمم المتحدة بالرقم (874/58A)، أهم ما ورد في الاتفاق:

اعتراف الامم المتحدة بوصفها مؤسسة قضائية مستقلة ذات شخصية قانونية دولية.

اعتراف المحكمة بمسؤولية الأمم المتحدة وفقاً لميثاقها الصادر سنة 1945م.

تعهد كل طرف باحترام الطرف الاخر.

الالتزام بالتعاون بين الطرفين.

تطوير العلاقات المؤسسية والتمثيل المتبادل وتبادل المعلومات.

يجوز للمحكمة تقديم تقريرها للأمم المتحدة ويجوز للمدعى العام الخاص بها بمخاطبة مجلس الأمن.

التعاون والمساعدة القانونية.

التعاون الإداري والمالي.

استخدام جواز الأمم المتحدة لمرور قضاة المحكمة ومدعيها العام وقلمها.

التعاون بين مجلس الأمن والمحكمة والتعاون بين الأمم المتحدة والمدعي العام.

المبادئ التي تقوم عليها المحكمة:

تقوم المحكمة الجنائية على عدة مبادئ أهمها: (مبدأ التكامل، عدم تقادم الدعاوي الجنائية، لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص تشريعي سابق، المسؤولية الشخصية عن الأعمال)، لأهمية مبدأ التكامل ولوضوح بقية المبادئ سنركز بالحديث عنه.

  مبدأ التكاملية:

        تحتفظ الدول الأعضاء بحقها في ممارسة صلاحياتها واختصاصها القضائي فيما يتعلق بالنظر في قضايا الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فقد ورد في ديباجة النظام الأساسي (وإذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية)، ومعنى ذلك أن الاختصاص والولاية القضائية ينعقد بدايةً للدولة ثم ينتقل على سبيل الاستثناء للمحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها جهازاً مكملاً لا لاغياً للمحاكم الوطنية  طالما كانت الدولة تنظر في قضية من هذا النوع أمام محاكمها الوطنية، وقد تناول النظام الأساسي المسائل المتعلقة بالاختصاص في المادة (17) منه على النحو الآتي:

   تقرر المحكمة أن الدعوى غير مقبولة في حالة ما:

(أ) إذا كانت تجرى التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقا غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك.

(ب) إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، ما لم يكن القرار ناتجا عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها على المقاضاة.

(ج) إذا كان الشخص المعني قد سبق أن حوكم على السلوك موضوع الشكوى، ولا يكون من الجائز للمحكمة إجراء محاكمة طبقا للفقرة 3 من المادة 20.

(د) إذا لم تكن الدعوى على درجة كافية من الخطورة تبرر اتخاذ المحكمة إجراء آخر.

2- لتحديد عدم الرغبة في دعوى معينة، تنظر المحكمة في مدى توافر واحد أو أكثر من الأمور التالية، حسب الحالة، مع مراعاة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي:

(أ) جرى الاضطلاع بالإجراءات أو يجري الاضطلاع بها أو جرى اتخاذ القرار الوطني بغرض حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة على النحو المشار إليه في المادة 5.

(ب) حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يتعارض في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.

(ج) لم تباشر الإجراءات أو لا تجري مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو بوشرت أو تجري مباشرتها على نحو لا يتفق، في هذه الظروف، مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.

3- لتحديد عدم القدرة في دعوى معينة، تنظر المحكمة فيما إذا كانت الدولة غير قادرة، بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني أو بسبب عدم توافره، على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها.

 المادة (17) تعني أن الاختصاص لا ينعقد المحكمة الجنائية الدولية إلا إذا كانت الدولة صاحبة الاختصاص القضائي غير راغبة أو غير قادرة على متابعة التحقيق أو الحكم في القضية وقد حدد ميثاق روما معيار عدم القدرة أو عدم الرغبة على النحو التالي:

تعتبر الدولة غير راغبة في المحاكمة إذا:

كان الهدف من الإجراءات حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية.

حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يتعارض مع نية تقديم الشخص المعني    للعدالة.

لم تباشر الإجراءات بشكل مستقل أو نزيه أوجرت أو تجري

مباشرتها على نحو لا يتفق مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.

تعتبر الدولة غير قادرة بسبب:

انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني. 

عدم القدرة على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية. 

 أي سبب آخر يحول دون القيام بالإجراءات.

مبدأ التكامل من المبادئ المهمة للغاية في مجال العدالة الجنائية والعلاقات الدولية، فهو يُحقق ولاية الدولة القضائية خاصةً وأن نظام روما يعترف بالنظم القانونية الداخلية للدول الأعضاء ويوليها اهتماماً كبيرا وبه تتحقق ضمانات أكثر للمتهمين وضحايا الجريمة كما أنه يُحقق سيادة الدول الأطراف، ومن أهم فوائده:

يُشكل ضمانة وأمان للمتهم في حال مقاضاته أمام المحاكم الوطنية وأمام قضاة وطنيين وباللغة التي يفهمها.

 يحترم السيادة الوطنية للدولة الطرف صاحبة الاختصاص والولاية القضائية. 

ينقل عبء تنفيذ القواعد والمبادئ الدولية إلى عاتق الدول ويلزمها بممارسة التزاماتها بموجب التشريعات والدولية والوطنية.

يُقلل من العبء على المحكمة الجنائية الدولية وقلل من جهد ووقت ونفقات إقامة العدالة الدولية بما.

يزيد من فرص التعاون الدولي في المسائل الجنائية الدولية.

اختصاص المحكمة الجنائية الدولية:

من خلال ديباجة الاتفاقية ونصوصها يمكن تقسيم اختصاص المحكمة على النحو التالي:

اختصاص زماني: 

يبدأ الاختصاص الزماني لعمل المحكم وفق المادة (11) من النظام الأساسي والت أمنت على أنه ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ النظام الأساسي، ويسري النظام الأساسي طبقاً للمادة ( 126) بعد مرور شهر من تاريخ إيداع  الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة ، وقد دخل النظام الأساسي حيز النفاذ أول يوليو 2002م، أما بالنسبة للدولة التي انضمت أو تلك التي ستنضم لاحقاً فإن اختصاص المحكمة الزماني ينطبق عليها اعتباراً من تاريخ الانضمام.

اختصاص شخصي:      

حدده المواد (26-28) من الميثاق على النحو التالي:

من أكمل 18 عام.

عدم الاعتداد بالصفة الرسمية السابقة أو الحالية للمتهم.

أمنت على مسؤولية القائد عن أعمال مرؤوسيه متى ما كان علي علم بها.

أمنت على مسؤولية الفاعل الأساسي والمعاون.

عدم الاعتراف بالحصانات والقواعد الإجرائية التي تحول دون المحاكمة.

اختصاص موضوعي: 

نصت عليه المادة (5) من نظام روما الأساسي، والتي ورد فيها: يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية: 

جريمة الإبادة الجماعية.

الجرائم ضد الإنسانية.

جرائم الحرب.

جريمة العدوان.

تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اُعتمد حكماً بهذا الشأن وفقاً للمادتين (123،121)، يُعرف جريمة العدوان ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقاً مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة. 

وفقاً لنص المادة (5) فالمحكمة بعد نفاذ الميثاق تختص فقط بالجرائم الأشد خطورة وقد حصرتها في جرائم (الإبادة الجماعية، الحرب، الجرائم ضد الإنسانية) أما جريمة العدوان فالاختصاص فيها موقوف بإيجاد تعريف لها بعد مرور سبع سنوات من تاريخ نفاذ النظام، يُلاحظ كذلك أن الميثاق قد أورد عبارة الجرائم الأشد خطورة على الرقم من عدم وجود تعريف موضوعي لمفهوم الجرائم الخطرة والجرائم الأشد خطورة. وهنا نرى أنه من الأهمية بمكان تناول الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بشيء من التفصيل، على النحو الآتي:

جريمة الإبادة الجماعية:

تناولتها الماد (6) من النظام الأساسي بأنها تعني ارتكاب أي فعل من الأفعال التالية بقصد إهلاك جماعة قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً:

قتل أفراد الجماعة.

إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.

إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئياً.

فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.

نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

يُلاحظ أن المادة قد وضعت تعريفاً مفصلاً للمادة حوى الركنين المادي والمعنوي للجريمة، حيث تمثل الركن المادي في عُدة أفعال، شملت (القتل، الحاق الأذى، اخضاع جماعة لأحوال معيشية صعبة بقصد هلاكها، فرض تدابير تمنع الإنجاب داخل الجماعة بقصد إنهاء السلالة أو نقل أطفالها عنوة إلى جماعة أخرى بقصد تغيير نمط الحياة وخلق جيل هجين من تلك الجماعة مستقبلاً، أما الركن المعنوي فيتمثل في نية القضاء على تلك الجماعة كلياً أو جزئياً والنية تستشف من خلال الرابطة الموضوعية لتلك الجماعة لا بعدد الضحايا حيث لا بد من أن يجمع بين الضحايا رابط القومية أو الاثنية أو العرقية أو الدين الواحد.

تعريف الإبادة الجماعية جاء مطابقاً لتعريفها في المادة (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948م والتي تُعد أو اتفاقية دولية متعلقة بحقوق الانسان تعتمدها الأمم المتحدة لذلك اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 9 ديسمبر من كل عام يوماً دولياً لإحياء الذكرى وتكريم ضحايا جرائم الإبادة الجماعية.  

أكدت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في مادتها الأولى أن الإبادة الجماعية، سواءً اُرتكبت في زمن السلم أو الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد الأطراف بمنعها والمعاقبة عليها، وأن مسؤولية منعها والمعاقبة عليها تقع على عاتق الدولة التي تقع فيها الجريمة، لذا على الدول اتخاذ ما يلزم من تدابير لمنع حدوث النزاعات المسببة لها والتي في الغالب تقع بسبب الهوية أو التمييز الناتج بسبب العرق أو الدين.

المادة (30) من النظام الأساسي تناولت الركن المعنوي للجريمة على النحو الآتي:

ما لم ينص على غير ذلك، لا يسأل الشخص جنائيا عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ولا يكون عُرضةً للعقاب على هذه الجريمة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم.

2- لأغراض هذه المادة، يتوافر القصد لدى الشخص عندما:

(أ) يقصد هذا الشخص، فيما يتعلق بسلوكه، ارتكاب هذا السلوك.

(ب) يقصد هذا الشخص، فيما يتعلق بالنتيجة، التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث.

3- لأغراض هذه المادة، تعنى لفظة العلم أن يكون الشخص مدركاً أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث، وتفسر لفظتا يعلم أو عن علم تبعاً لذلك.

الجرائم ضد الإنسانية:

تناولتها المادة (7) من الميثاق على النحو الآتي:

لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية «جريمة ضد الإنسانية» متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم:

القتل العمد.

الإبادة.

الاسترقاق.

إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان.

السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي.

التعذيب.

الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة.

اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة.

الاختفاء القسري للأشخاص.

جريمة الفصل العنصري.

الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.

جرائم الحرب:

     تناولتها المادة (8) من النظام الأساسي بتفصيل دقيق حيث تناولت بدايةً العناصر المطلوب توافرها حتى يُعد الفعل جريمة حرب، ثم تناولت الأفعال والتصرفات التي تُشكل جريمة حرب أثناء النزاعات المسلحة الدولية، ثم صور جرائم الحرب في النزاعات المسلحة غير الدولية، لذا حتى يسهُل الفهم، سنقسم هذه الجريمة لثلاثة محاور نتناول في الأول الشروط المطلوبة وفي الثاني نماذج جرائم الحرب في النزاعات الدولية وفي الأخير نماذج الجريمة في النزاعات الدولية.

الشروط المطلوبة:

  يُعد الفعل جريمة حرب وينعقد للمحكمة اختصاص متى ما توفرت الشروط الآتية:

عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسية عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم.

يقع الفعل بالمخالفة لاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949م، ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم تلك الاتفاقيات.

نُلاحظ أن النظام الأساسي قد فصَل تفصَيلاً دقيقاً في جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي تقديرنا أن مرد ذلك يعود إلى أن القانون الدولي الإنساني شُرع أصلاً لوضع قواعد قانونية تُنظم النزاعات المسلحة الدولية والداخلية من حيث طرق القتال والسلاح المستخدم فيه وهو قانون يخاطب طرفي النزاع ويلزمهم بتوفير الحماية للأشخاص والأعيان المحميين بموجب ذلك القانون.

جريمة العدوان:

لم  يتناول النظام الأساسي  جريمة العدوان كتناوله للجرائم الأخرى التي تدخل ضمن  اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كما أنه لم يضع لها تعريفاً محدداً فقط أشار اليها في الفقرة الأولى من المادة (5) ، ثم أوقف العمل بها في الفقرة (2) من ذات المادة التي جاء فيها: (تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد حكم بهذا الشأن وفقا للمادتين 121، 123 يعرف جريمة العدوان ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة. ويجب أن يكون هذا الحكم متسقا مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة).

المادة (121) من الميثاق تناولت التعديلات والمادة (122) تناولت التعديلات المؤسسية، وأهم ما جاء في المادتين فيما يتعلق بجريمة العدوان يكمن تلخيصه في الآتي:

يجوز لأي دولة تقديم مقترح تعديل بعد انقضاء سبع سنوات من بدء نفاذ النظام الأساسي.

 تقرر الجمعية التالية للدول الأطراف ما إذا كانت ستتناول الاقتراح أم لا، وذلك بأغلبية الحاضرين المصوتين وفى موعد لا يسبق انقضاء ثلاثة أشهر من تاريخ الإخطار. وللجمعية أن تتناول الاقتراح مباشرة أو عبر مؤتمراً استعراضيا خاصاً.

تُجاز التعديلات بموافقة ثلثي الدول الأطراف.

 يصبح أي تعديل على جريمة العدوان نافذا بالنسبة إلى الدول الأطراف التي تقبل التعديل، وذلك بعد سنة واحدة من إيداع صكوك التصديق أو القبول الخاصة بها. وفى حالة الدولة الطرف التي لا تقبل التعديل. يكون على المحكمة ألا تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشمولة بالتعديل عندما يرتكب هذه الجريمة مواطنون من تلك الدولة أو ترتكب الجريمة في إقليمها.

في تقديرنا أن المجتمع الدولي الذي توافق على الميثاق لا يعجزه وضع تعرف محدد لجريمة العدوان وتحديد أركانها كما فعل مع الجرائم الأخرى الثلاث غير أنه وفي تقديرنا غير راغب في ذلك إذ أن الأمر يتعارض مع مصالح الدول الكبرى بالأخص الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على الرغم من وجود عدة اتجاهات في مسودة الميثاق ومراحل النقاش لتعرف العدوان برزت في:

اتجاه يري أن العدوان عبارة عن سلوك يرتكبه أشخاص يمارسون القيادة السياسية أو العسكرية.

اتجاه ثاني أضاف قائمة الأعمال التي تشكل جريمة العدوان، وقد قُوبل الرأي بالرفض لأن اعتبار الأعمال يعزز من مسؤولية الدول ويقلل من مسؤولية الأفراد.

اتجاه ثالث مزج بين الاتجاهين الأول والثاني. 

عقدت جمعية الدول الأطراف مؤتمرها الاستعراضي في كمبالا في يونيو 2010م بحضور أكثر من (4500) من ممثلي الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية والذي حوت أجندة أعماله تعريف جريمة العدوان وتحديد أركانها، وبعد نقاش طويل عن الجريمة ودراسة مقترح حذف الفقرة (2) من المادة (5) المتعلقة بوقف العمل بالجريمة أو تعديل المادة بإيجاد تعريف وتحديد الأركان، توصل المؤتمر لتعريف جريمة العدوان وفقاً  لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ( 3314 ) لعام 1974م، مع حذف صفة العدوان على الجريمة التي يرتكبها قائد سياسي أو عسكري والتي تُشكل بحكم طابعها وخطورتها ونطاقها انتهاكاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة، وفقاً للشروط الآتية:

ممارسة المحكمة لنظر جريمة العدوان مرهون بقرار واضح من مجلس الأمن يقرر فيه إن عملاً عدوانيا قد وقع، وفي هذه الحالة ي لمجلس الأمن وهو يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أن يحيل هذه الحالة إلى المحكمة وفق المادة (13) من النظام الأساسي.

لن يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم العدوان المرتكبة على إقليم الدول غير الأطراف أو المرتكبة من جانب رعاياها أو فيما يتعلق بدول طرف تكون قد أعلنت أنها لا تقبل اختصاص المحكمة بشأن جريمة العدوان ما لم تكن الحالة محولة من مجلس الأمن.

للمدعي العام أن يبدأ إجراء تحقيق بمبادرة منه هو أو بناءً على طلب من إحدى الدول الأطراف، بعد حصوله على إذن مسبق من الشعبة التمهيدية للمحكمة.

تبدأ الممارسة الفعلية لهذا الاختصاص بعد صدور قرار تتخذه الدول الأطراف بغالبية ثُلثي بعد الأول من يناير 2017م.

 

شارك المقال

1 thought on “المحكمة الجنائية الدولية .. محكمة العدالة الانتقائية (الجزء 3)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *