السودان والاقتصاد العالمي: تقاطعات التأثر في زمن الدولار القوي والعولمة المضطربة
Admin 12 يوليو، 2025 44
محمد كمير
خبير اقتصادي
• يمثل الاقتصاد السوداني نموذجًا للدولة التي لا تمتلك بنية تصديرية ضخمة، أو اندماجًا مؤسساتيًا عميقًا في النظام المالي العالمي، لكنها مع ذلك شديدة الحساسية لأي اهتزاز في الأسواق الدولية. هذا التفاعل غير المتكافئ بين الداخل المحلي والدوائر العالمية ينبع من طبيعة الاقتصاد السوداني، الذي يعتمد على تصدير المواد الخام، واستيراد معظم مستلزماته الصناعية والغذائية، بجانب اعتماده على تحويلات المغتربين، والمساعدات الخارجية، التي تتأثر هي الأخرى بالسياسات النقدية للدول الكبرى. وتظهر هذه العلاقات في أشد صورها عند تحليل الأحداث الاقتصادية الكبرى في الاقتصادات المحورية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ففي يونيو 2025، صدرت بيانات أمريكية مفصلية، تعكس تحسنًا مفاجئًا في سوق العمل، حيث سجل الاقتصاد الأمريكي 147 ألف وظيفة جديدة في القطاعات غير الزراعية، متجاوزًا التوقعات التي رجّحت إضافة 111 ألف وظيفة فقط. كما انخفض معدل البطالة إلى 4.1%، أي أقل من القراءة المتوقعة عند 4.3%. في الوقت ذاته، تراجعت وتيرة نمو الأجور الشهرية من 0.4% إلى 0.2%، ما يعني أن ضغوط التضخم لم ترتفع بالوتيرة المتوقعة، في حين جاءت طلبات إعانة البطالة أقل من المتوقع. هذه الحزمة من البيانات شكلت صدمة إيجابية للأسواق، رفعت الدولار الأمريكي فورًا مقابل معظم العملات، وضغطت على الذهب الذي فقد بعض مكاسبه كملاذ آمن.
عند النظر إلى هذه الأرقام في سياق الاقتصاد السوداني، فإن التأثير يبدو عميقًا، رغم بعد المسافة السياسية والمؤسساتية بين البلدين. فأولًا، ارتفاع الدولار الأمريكي يؤدي إلى زيادة تكاليف الاستيراد في السودان، البلد الذي يعتمد على الخارج في استيراد الغذاء والدواء والوقود. في ظل غياب نظام مصرفي مستقر، واستمرار تعدد أسعار الصرف، فإن كل صعود في قيمة الدولار يعني أن المستوردين سيواجهون صعوبات مضاعفة في تغطية التزاماتهم، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار داخليًا، وبالتالي زيادة التضخم، الذي يعاني السودان منه أصلًا بمعدلات خانقة.
ثانيًا، إن ارتفاع الدولار يُضعف العملات الأخرى، وخاصة اليورو والريال والدرهم، وهي عملات تحويل رئيسية للجاليات السودانية في الخارج، خاصة في دول الخليج وأوروبا. وبالتالي، فإن أي تراجع في هذه العملات مقابل الدولار، يؤدي إلى انخفاض القيمة الحقيقية للتحويلات المالية التي تُرسل إلى الداخل، مما يضغط على القوة الشرائية للأسر السودانية، التي تعتمد على هذه التحويلات كمصدر أساسي للدخل.
ثالثًا، فإن الذهب، الذي يمثل أحد أهم صادرات السودان، يتأثر مباشرة بأي تحركات في سعر الدولار. فعندما يرتفع الدولار، ينخفض الذهب، والعكس صحيح. وفي الحالة التي نناقشها، فإن قوة الدولار بعد صدور بيانات سوق العمل الأمريكي، أدت إلى تراجع الذهب. وهذا يعني أن السودان سيحصل على عائدات أقل من صادراته من الذهب إذا ما استمرت هذه الضغوط، خاصة في ظل غياب عقود تحوط أو أدوات تحكم في أسعار البيع. كما أن انخفاض عائدات الذهب يضرب أحد أهم مصادر العملة الأجنبية للبلاد، مما يفاقم أزمة ميزان المدفوعات.
رابعًا، فإن تحسن البيانات الأمريكية يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة، أو على الأقل تأجيل أي خفض محتمل. هذا القرار يعمق الأزمة المالية في البلدان النامية، لأنه يعني استمرار نزوح رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة نحو الأصول الأمريكية الأكثر أمانًا وربحية. وهكذا، تزداد كلفة التمويل الدولي على الدول التي تعتمد على الاقتراض، بينما تُحرم البلدان الهشة كالسودان من أي إمكانية للحصول على تمويل بشروط مقبولة. وتصبح بالتالي مجبرة على الاعتماد على التمويل المحلي (الطباعة) أو المساعدات المشروطة التي تتراجع عالميًا بسبب الأولويات الداخلية للدول المانحة.
إن تحليل البيانات الأمريكية لا ينفصل عن الفرضية المركزية لهذا المقال، وهي أن الاقتصاد السوداني مرتبط عضويًا بما يحدث في المراكز الاقتصادية الكبرى، حتى وإن لم يكن له مقعد فعلي في تلك الطاولات. فكل قرار يتخذه الاحتياطي الفيدرالي، وكل تغير في مؤشر الوظائف أو التضخم أو سعر الفائدة، له أثر غير مباشر على السودان، إما عبر العملة، أو سعر الذهب، أو كلفة الاستيراد، أو تدفقات التحويلات.
ومن هنا، تظهر أهمية أن يعتمد السودان على قراءة دائمة ومتأنية للمؤشرات الدولية المؤثرة، وأن يُطوّر أدوات اقتصادية ومالية تحصّنه من هذه الهزات. على سبيل المثال، يمكن النظر في حلول اقتصادية «خارج الصندوق» للتعامل مع هيمنة الدولار، مثل:
1. اعتماد آلية تسعير مرنة للذهب في السوق المحلي، تتبع حركة الأسعار العالمية بشكل فوري، وتمنح المنتجين هامشًا واقعيًا يربطهم بالسوق العالمية.
2. تشجيع التحويلات عبر قنوات مصرفية رسمية مضمونة، تقدم سعر صرف مميزاً أو خدمات حصرية للمحولين، بما يُحفز التحويل من السوق غير الرسمية.
3. إنشاء صندوق استقرار سلعي، يعمل كآلية عازلة لتقلب أسعار الصادرات الرئيسية مثل الذهب والماشية، بحيث يوفر استقرارًا نسبيًا للعائدات في وجه الهزات الخارجية.
4. ربط خطط الاستيراد الاستراتيجي بتوقعات الدولار والذهب، ووضع آليات استباقية للمناورة في حال تغيرت هذه التوقعات، كتقديم تسهيلات جمركية مؤقتة، أو تسريع التعاقدات في أوقات انخفاض الدولار.
5. تنويع سلة العملات الأجنبية المستخدمة في التبادلات التجارية، خاصة مع الشركاء غير الغربيين، كالصين وتركيا، للتقليل من الاعتماد الكلي على الدولار وتقلباته.
إن قراءة الاقتصاد السوداني كجزيرة منعزلة عن العالم، لم تعد ممكنة في ظل ما يشهده العالم من ترابط غير مسبوق في حركة الأسواق والمؤشرات. وحتى في ظل الحرب والنزاع الداخلي، فإن التقلبات في الوظائف الأمريكية، أو تغير أسعار الفائدة في واشنطن، أو ارتفاع التضخم في أوروبا، تترك بصماتها العميقة على مائدة المواطن السوداني، وعلى ميزانية الدولة، وعلى آمال الإصلاح.
شارك المقال