

د. محمد أحمد محجوب عثمان
أستاذ القانون العام المُشارك
• عُرض ميثاق روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية أمام الجمعية العامة للأمم المُتحدة بتاريخ 17يوليو 1998م، ودخل حيز النفاذ وبدأت المحكمة عملها في الأول من يوليو عام 2002م وفقاً لمنطوق المادة (126) منه، والتي قضت بسريانه في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين لإيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
المحكمة الجنائية الدولية واحدة من آليات القانون الدولي الإنساني، ومع ظهورها المُتأخر جداً مقارنة مع بروز أول اتفاقية دولية لذلك القانون في العام 1864م، إلا أننا نجد ظهور ثمة محاولات جادة لإيجاد آلية قضائية تفصل في نزاعات وتجاوزات القانون الدولي الإنساني، لذا فقد رأينا وبعد مرور ثلاثة وعشرون عاماً على نشأة تلك المحكمة ضرورة الوقوف على تلك المسيرة والتطرق لإنجازاتها واخفاقاتها مع التطرق للمحاولات والتجارب التي سبقتها، وحتى لا يمل القارئ الكريم سيتم التناول في سلسلة من الموضوعات.
الإنسان بطبعه اجتماعي، لا يُمكنه العيش لوحده، ذلك أن احتياجاته الطبيعية والحياتية تتطلب منه التعامل مع غيره، ومن المعروف أن الطبائع البشرية ليست على وتيرة أو نمط واحد فبعضها لا يخلو من الحدة والقسوة، بل والميل لانتهاك حقوق الآخرين والتعدي على ممتلكاتهم وأعراضهم وخصوصياتهم ، لذا فإن وجود أي مجموعة من البشر يتطلب وجود اقليم وسلطة تدير أمورهم وتنظم حياتهم وطريقة عيشهم وتضبط وتنظم حياتهم وتعاملاتهم ومعاملاتهم، وتسيطر على كل محاولات الاستبداد أو الاستعباد، من خلال وضع النظم الاجتماعية والعرفية والقانونية التي تُحاسب كل من يتعدى على تلك القيم والنظم المجتمعية.
عرفت المجتمعات البدائية مسألة الفصل في الخصومات والمظالم من خلال نًظم مختلفة تفاوتت من مجتمع لآخر، وإن كانت لا تتوفر فيها مقومات العدالة المطلوبة غير أنها كانت آليات قائمة وتجد قراراتها وأحكامها القبول أو الإذعان من طرفي الخصومة، وإن كان بعض المؤرخين يسندون فكرة المحاكم إلى فترة قوانين حمورابي في بابل إلا أن الشواهد التي تدلل على وجود نظم للفصل في الخصومات عن طريق التحكيم أو التصالح أو اصدر الأحكام قبل تلك الفترة ولعل الشاهد في ذلك قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) –سورة المائدة الآية 32-، في تفسير هذه الآية يقول القرطبي خصَ الله بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمتهم أممٌ قبلهم كان قتل النفس فيهم محظوراً لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس وكان قبل ذلك قولاً مطلقاً، ولعل دليل شرح الإمام القرطبي أن الآية نزلت في سياق قتل قابيل بن آدم عليه السلام لأخيه هابيل، وهذا دليل على أن نُظم التشريع والقضاء والمحاسبة قضائيةٌ كانت أو مجتمعيةٌ متزامنة مع خلق البشر، وورد في التفسير المُيسر: بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير سببٍ من قصاص, أو فسادٍ في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد, الموجب للقتل كالشرك والمحاربة فكأنما قتل الناس جميعاً فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله, وأنه من امتنع عن قَتْل نفس حرَّمها الله فكأنما أحيا الناس جميعاً، فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظاً على حرمات الناس كلهم. ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما فُرِضَ عليهم، ثم إن كثيراً منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره. ومما لا شك فيه أننا نجد أن الآية في عمومها تدل على وجود تشريعات ونُظم قانونية تُحاسب من يتعدى عليها وتجاوزها.
كانت المجتمعات البدائية تفصل في النزاعات والخصومات بواسطة الكهان والسحرة والمنجمين والفراسة، ثم تطور نظام القضاء الداخلي إلى الفصل بواسطة الحاكم ثم إلى نظام التحكيم، ثم لمرحلة تعيين قضاة للفصل في الدعاوى. وقد حاولت قريش قبل رسالة الإسلام أن تُعيِّن قضاة متخصصين للنظر في قضايا الجماعات المختلفة، يعرفهم كل من أرادهم، فعينوا قضاة للنظر في النزاعات التي تقع بين القرشيين، وكانوا من زعماء بني سهم، وكذلك كان هناك قضاة مختصون بالنظر في نزعات القرشيين مع غيرهم من القبائل الأخرى، ومن أشهر أولئك القضاة هاشم بن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب.
على الرغم من حداثة فكرة القضاء الدولي، وفكرة المسؤولية الفردية، في ظل النقاش والخلاف بين المفكرين والكُتاب حول موقع الإنسان الطبيعي في القانون الدولي العام، والانقسام حول فكرة القانون الدولي التقليدي والحديث، إلا أننا نجد أن فكرة القضاء الدولي في الفصل في نزاعات القانون الدولي الإنساني المُتعلقة بنظم وقواعد ومبادئ الحرب قد ظهرت في التاريخ الاسلامي لأول مرة في خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عام (587-705م)، حيث فتح القائد قتيبة بن مسلم الباهلي مدينة سمرقند (أوزبكستان حالياً) دون أن يدعوا أهلها للإسلام أو الجزية، ولم يمهلهم ثلاثة أيام كعادة المسلمين وقتها، ولما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة للخليفة عمر بن عبد العزيز الذي أمر باستدعاء القائد قتيبة بن مسلم إلى مجلس القضاء للتحقيق في تلك الواقعة، سمع القاضي (جُمَيْع بن حاضر الباجي) دعوى أهل سمرقند ونائب قتيبة (كان قتيبة قد مات) والذي ذكر أقر بالدعوى، فما كان من القاضي إلا وأن قضى بإخراج المسلمين من سمرقند من جيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تُترك الدكاكين والبيوت، وأن لا يبق في سمرقند أحدٌ، على أن ينذرهم المسلمون بعد ذلك وفقاً لقواعد ومبادئ القتال وقتها، وقد نفذ جيش المسلمين قرار المحكمة كما هو.
تطور القضاء شيئاً فشيئاً تبعاً لنوع وفظاعة الفعل المرتكب وآثاره الضارة وضحاياه من حيث عددهم وحجم الأضرار الواقعة عليهم، لذا فإن الفترة بعد الحرب العالمية الأولى كانت فترة فاصلة وفارقة ومؤسسة لنظام تقاضي جديد بخلاف ما كان عليه العمل في العصور القديمة والوسطى، ذلك أن المجتمع الدولي اتجه نحو تأسيس قضاء دولي للفصل في الانتهاكات والجرائم التي اُرتكبت أبان الحرب العالمية ومحاولة محاكمة مرتكبيها.

اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م واستمرت حتى العام 1918م وانتهت بانتصار الحلفاء وقد شهدت ارتكاب جرائم خطيرة بحق الإنسانية وانتهاكات صارخة لقيم ومبادئ وأعراف وتقاليد الحرب، لذلك نبعت فكرة المسؤولية الجنائية الفردية بجانب الجزاء الدولي وضرورة معاقبة الزعماء الألمان عن تسببهم في إثارة الحرب وانتهاك قواعدها وأعرافها، وقد واجه الحلفاء بعض الصعوبات فيما يتعلق بفرض الجزاء على المتهمين ذلك أن الحرب العدوانية لم تكُن مجرمةً من ناحية ولم تنص اتفاقيات لاهاي على أية عقوبات أو أية جهة قضائية دولية تتولى محاكمة المتهمين بسبب انتهاك قوانين وأعراف الحرب من ناحية أخرى.
اتجه فقهاء القانون للبحث عن تبريرات قانونية تستند عليها فكرة المحاكم الوطنية للقيام بمهمة المحاكمة، وقد انقسم الفقه في ذلك إلى فريقين: فريق يعارض فكرة اختصاص الدولة بمحاكمه رعايا الدول الأعداء المتهمين بارتكاب جرائم حرب وذلك استناداً لعدم الاختصاص، وفريق آخر يؤيد اختصاص الدولة بمحاكمه رعايا الدول الأعداء المتهمين بارتكاب تلك الجرائم استناداً لمبداْ إقليمية القوانين الجنائية.
في غضون هذا الخلاف وبسببه شكل المؤتمر التمهيدي للسلام الذي عُقد في باريس علم 1919م لجنه سميت بلجنة المسؤوليات واوكل لها مهمة بحث الجوانب القانونية حول الانتهاكات وتحديد المسؤولية عنها واقتراح أفضل الطرق التي تُمكّن من ملاحقة ومحاسبة مرتكبي تلك الجرائم.
خلُصت لجنة المسؤوليات إلي أن هناك طائفتين من الأشخاص المسؤولين عن تلك الانتهاكات، طائفة تشمل مجموعة من المتهمين قاموا بارتكاب أفعال تنتهك قوانين ومبادئ وأعراف الحرب ضد دولة واحدة أو ضد رعاياها وهؤلاء يجب أن يُحاكموا أمام محاكم الدولة المتضررة أو التي يتبع الضحايا لرعاياها، أما الطائفة الأخرى فتتمثل في الأشخاص المتهمين بارتكاب أفعال أضرت بمصالح عدة دول مثل اصدار الأوامر بارتكاب جرائم في أقاليم عدة دول أو الامتناع عن اتخاذ إجراءات من شأنها منع ارتكاب تلك الجرائم أو ايقافها أو أن الضحايا من مواطني دول متعددة، فهؤلاء يجب أن يُحاكموا أمام محكمة دولية مكونة من (22) قاضياً يُعين قضاتها من منسوبي السلطات القضائية في الدول المتضررة.
الحرب العالمية الأولي ورغماً مما أحدثته من فظائع تعد أهم الخطوات التي بدأت نحو التأسيس الفعلي لإنشاء قضاء دولي جنائي يوقع الجزاء على المتورطين في انتهاك قوانين ونظم ومبادئ الحرب وخرقهم الصارخ للأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات واقتراف جرائم في حق الإنسانية حيث كانت فكرة محاكمة إمبراطور ألمانيا (غليوم الثاني) والذي طُرحت مسألة محاكمته أثناء مؤتمر السلام التمهيدي الذي عُقد في باريس عام 1919م، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى على الرغم من الخلاف بين المنتصرين وحلفائهم حول نوعية المحكمة والأشخاص الذين يجب تقديمهم للمحاكمة.
كان نتاج مؤتمر السلام الدولي ظهور معاهدة فرساي او اتفاقية فرساي، والتي حوت (440) مادة و (20) ملحقاً، وتعتبر بمثابة المعاهدة التي أسدلت بصورة رسمية الستار على الحرب العالمية الأولى. وتم التوقيع عليها بعد مفاوضات استمرت فترة ستة أشهر عام (1919) ووقّع عليها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى من جانب، والجانب الآخر الجانب الألماني المهزوم في الحرب، وتم تعديلها فيما بعد عام 1920م لتتضمّن الاعتراف الألماني بمسؤولية الحرب ، الشيء الذي يُرتب على ألمانيا تعويض الأطراف المتضرّرة مالياً.
في العام 1920 أُبرمت معاهدة سيفر بين دول الحلفاء والدولة العثمانية وقد أمنت في مادتها (230) على ضرورة تسليم الإمبراطورية العثمانية للأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الواقعة على الأرمن واليونانيين خلال الحرب العالمية الأولى إلى المحكمة التي سيشكلها الحلفاء، أو إلى عصبة الأمم، إلا أن هذه المحكمة لم تُعقد لعدم المصادقة على معاهدة سيفر، التي أعقبتها معاهدة لوزان عام 1923م، والتي لم ُتشر بنودها إلى إجراء المحاكمات، بل تضمنت ملحقاً غير مُعلن يتضمن عفواً عاماً عن الجرائم التي ارتكبها الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى.
أمنت معاهدة فرساي للسلام على محاكمة غليوم الثاني لارتكابه انتهاكات صارخة ضد مبادئ الأخلاق وفقاً للمادة (228) من الاتفاقية التي نصت على (سلطات الدول المتحالفة والمنظمة توجه الاتهام العلني إلى الامبراطور السابق غليوم الثاني لارتكابه انتهاكات صارخة ضد مبادئ الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات، وسوف تُشكل محكمة خاصة لمحاكمة المتهم، على أن تُكفل له كافة الضمانات الجوهرية لممارسة حق الدفاع عن نفسه، وتتألف هذه المحكمة من قضاة يُعينون من الدول الخمس الآتية: الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا العظمى، فرنسا، إيطاليا واليابان، وسوف تعتمد المحكمة في قضائها على المبادئ السامية التي تحكم السياسة الدولية بتأمين وتأكيد احترام الالتزامات المُعلنة رسمياً، والتعهدات الأخلاقية الدولية. ويكون للمحكمة تحديد العقوبة التي ترى تطبيقها عليه، وسوف توجه الدول المتحالفة والمنظمة إلى حكومة هولندا طلبات تلتمس فيه تسليم الإمبراطور لمثوله أمام المحكمة).
على الرغم من نص المادة (228) لم تتم المحاكمة لرفض هولندا تسليمه بعد أن فرَ هارباً إليها، مستندةً إلى أن الإمبراطور غليوم الثاني لم يرتكب ثمة فعل معاقب عليه بالمخالفة لقانون العقوبات الهولندي أو طبقاً لقواعد قانون الإبعاد الهولندي، أو طبقاً لغيرها من الاتفاقيات المُبرمة بين هولندا وكل من فرنسا وبلجيكا وإنجلترا والولايات المتحدة، إضافة إلى كون الإمبراطور سيحاكم بواسطة أعدائه، الشيء الذي لا يضمن له محاكمة جنائية تتوفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة.
رفض هولندا تسليم الإمبراطور غليوم الثاني رغماً عن الإجماع الدولي على ضرورة المحاكمة يُعد من مظاهر خرق القواعد الدولية وتغليب مصلحة الفرد والدولة عي مصلحة الجماعة والمجتمع الدولي ويخالف مبادئ العدالة ويُكَرس لظاهرة الإفلات من العقاب ويعرقل الجهود الدولية الرامية لإيجاد آلية قضائية دولية.
كما أن ألمانيا قد عارضت محاكمة الألمان أمام المحاكم الأجنبية على الرغم من نص معاهدة فرساي على محاكمة كبار مجرمي الحرب الألمان، حوفاً من إثارة القلاقل والاضطرابات التي ستتعرض لها جراء ذلك. إضافةً إلى أن التشريع الوطني الألماني يمنع تسليم المجرمين الألمان، وقد أصدرت الحكومة الألمانية تدعيماً لموقفها تشريعاً في ديسمبر 1919م، أنشأ بموجبه المحكمة الألمانية العليا لمحاكمة المتورطين في انتهاك قوانين ومبادئ وقواعد وأعراف الحرب. ولقد تقدم الحلفاء بعد تقبلهم لهذا الأمر بقائمة تضم خمسة واربعين من كبار القادة العسكريين والسياسيين، من بين حوالي تسعمائة متهماً تضمنتهم القائمة الأساسية للجنة تحديد المسؤوليات عن جرائم وأضرار ونتائج الحرب ، ومع ذلك لم يمثل أمام المحكمة العليا الألمانية سوى اثنا عشر ضابطاً ألمانياً، فقد هرب أغلبهم من ألمانيا ، كما أن الشهود المنتمين لدول الحلفاء لم يتمكنوا من حضور المحاكمات الألمانية التي ابتدأت في مايو 1921م، وسط تشكيك في جدية تلك المحاكمات التي كانت غالبية أحكامها البراءة أو الأحكام غير الرادعة التي لا تتناسب والجرم المُرتكب.
على الرغم من اعتراف اللجنة بوجود انتهاكات لقوانين وأعراف ومبادئ الحرب إلا أنها رأت أنه لا يمكن محاكمة شخص بالمسؤولية عن اللجوء للحرب فقد انتهت اللجنة إلى القول إن اللجوء للحرب لا يقع تحت طائلة العقاب وذلك لعدم وجود قانون دولي سابق يحرم ويجرم اللجوء إلى الحرب ويحدد العقوبات الجنائية المستوجبة عند المخالفة، لعل سبب ذلك في تقديرنا أن قانون اللجوء الى الحرب لم يكن معروفاً وقتها، فقد نص عليه ميثاق الأمم المتحدة الذي منع استخدام القوة واللجوء لها إلا في حالات تمثلت في: الدفاع الشرعي عن النفس، والتفويض باستخدام القوة من مجلس الأمن ، ومع ذلك أصر الحلفاء على محاكمة من قرر اللجوء للحرب إلا أن مساعي الحلفاء لم تُكلل بالنجاح لأسباب عديدة منها:
لم تشر معاهدة فرساي لجرائم دولية بعينها وإنما أشارت فقط في مادتها (227) لمسؤولية غليوم الثاني، ولم تتبع الاتفاقية أية بروتوكولات أو تفصيل للجرائم والأفعال المحظورة وبالتالي غياب مبدأ الشرعية.
اعتراض عدد من الدول مثل اليابان والولايات المتحدة على المحاكمات وامتناع هولندا عن تسليم غليوم الثاني، وامتناع ألمانيا عن تسليم المتهمين الألمان مع قيامها بإجراء بعض المحاكم الصورية لبعضهم.
انتماء غالب المتهمين لدول ذات نفوذ سياسي أو عسكري أو اقتصادي وسعيها لحماية رعاياها بالامتناع عن تسليمهم بدعوى سيادتها وولايتها القضائية.
عدم رغبة أو قدرة عدد من الدول وأنظمتها القضائية في المحاكمة والعقاب أو حتى المُطالبة بإنصاف ضحاياها.
ضعف الأنظمة الدولية وانعدام أو قلة الهيئات والتشريعات المتعلقة بالعدالة خاصةً في ظل حداثة فكرة الجرائم الدولية وقتها.
على الرغم الانتقادات التي وجهت لمحاكمات مجرمي الحرب العالمية الأولى وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهتها نجد أنها قد حققت العديد من النجاحات أهمها:
لفتت نظر الدول لبعض الجرائم وأرست مبادئ وقواعد واعراف القتال وأوجدت فكرة وجود جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
أقرت ولو بصورة غير مباشرة فكرة مسؤولية الأفراد عن أعمالهم بجانب مسؤولية الدول.
أشارت لإمكانية محاسبة ومحاكمة رؤساء الدول وقادة الجيوش (على الرغم من عجزها عن محاكمة الإمبراطور غليوم الثاني واصدارها أحكاماً ضعيفة في مواجهة غيره من المتهمين والمدانين).
كانت بمثابة الخطوة الأولى والتجربة المهمة لإظهار فكرة القضاء الدولي وبروزها لأرض الواقع.
مع ضعف العصبة وعدم مقدرتها علي فرض السلام الدولي وقعت الحرب العالمية الثانية العالمية الثانية (1939-1945م) التي شاركت فيها الغالبية العظمى من دول العالم في حلفين عسكريين متنازعين هما: قوات الحلفاء، ودول المحور، وكانت بمثابة الحرب الأوسع في التاريخ، حيث شارك فيها بصورة مباشرة أكثر من (100) مليون شخص ينتمون لأكثر 30 دولة، وضعت فيها الدول الكبرى كآفة إمكاناتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والصناعية والعلمية في خدمة المجهود الحربي.
خلفت الحرب العالمية الثانية أعدداً كبيرة من القتلى المدنيين نتيجة القصف المتواصل الذي أودى بحياة حوالي مليون شخص، وفيها اُلقيت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناجازاكي. يقدر قتلي الحرب بحوالي ثمانين مليون قتيل من بين العسكريين والمدنيين (يمثلون حوالي 3% من سكان الكرة الأرضية وقتها)، لذا فإن الحرب العالمية الثانية تُعد أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية بسبب ما أحدثته من قتل وتدمير، لذلك أدت الفظاعات المرتكبة خلال تلك الحرب إلى ارتفاع الأصوات والتصريحات المنادية بضرورة معاقبة المسؤولين عن تلك الجرائم، كان نتاج ذلك ظهور إنشاء عدداً من المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة.
نواصل….
شارك المقال