• الغُربة هي أمُّ الهُموم وظِئرُ الغُموم، وتعريفها أنها فجوةٌ بين الغريب ومن حوله تَحولهُ عن مجاراتهم ومواكبتهم وتلزمه خوض غمار رحلة شاقة لإحداث تغييرٍ داخلي يُساير به بيئته المحيطة. وللغربة عدة ألوانٍ وطرائق متداخلة، أشهرها الغُربة الجغرافية التي يعاني منها من يفارق وطنه، ومضمونها حنين الإنسان إلى أهله ورفاقه وأرضه التي شبَّ بها وكانت مرتع صباه، ولا شك أن هذه الغربة تلازمها غربة ثقافية في كثير من الأحيان. والغربة الثقافية هي شعورٌ بالانفصال عن البيئة المحيطة بسبب اختلاف العادات أو اللغة أو نمط العيش.
وهناك أنواع من الغربة لا تلزم أن يفارق الرجل دياره؛ كالغربة النفسية التي تحدث بسبب اضطراب ما، وإما أن يكون ذلك الاضطراب في نفس الغريب أو في بيئته المحيطة، فتكون الغربة في هذه الحال لازمةً من لوازم الاختلاف بين الغريب ومن حوله، وتجعله يشعر بالعزلة وسط جموع الناس، وقد صاغها أحد الفلاسفة الغربيين في مقولة: (من غير الطبيعي أن يعيش الإنسان الطبيعي في زمنٍ غير طبيعي، ومن غير الطبيعي أن يعيش الإنسان غير الطبيعي في زمنٍ طبيعي)، وفي أحايين أخرى تكون غربة الإنسان بُعده عن زمانه؛ والأخيرة أشدُ أنواع الغربة، وتلخص كل ما حاول الفلاسفة وصفه وأطلقوا عليه مسميات مختلفة مثل (غربة اجتماعية) وغيرها. وهذه الغربة هي التي أصابت السابقين الأولين في مطلع فجر الإسلام وأول عهده، وستصيب القابضين على الجمر في آخر الزمان، فالإسلام كان غريباً في مكة، وحين هاجر أهله إلى المدينة واستقبلهم الأنصار كان غريباً أيضاً، إذ إن أكثر أهل الأرض يومها على الشرك والوثنية، ثم مضت السنوات وأتى الله سبحانه بالنصر والفتح من عنده، ودخل الناس في دينه (عز وجل) أفواجاً، وزالت الغربة حينها ولكنها عائدةٌ بنص حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). وفي رواية أخرى قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال:(الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي اللفظ الآخر:(يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، وفي لفظ آخر: (هم النزاع من القبائل)، وفي لفظ آخر: (هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير).
وكان جزاء الغُرباء في هذه الغربة عظيماً على قدر شدتها ومشقة الصبر فيها، إذ وُعدوا بالعاقبة الحميدة، فطُوبى ذكر معناها في حديثٍ آخر بأنها شجرةٌ في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام. وأما غربتنا التي نعاني منها ونقضي جُل وقتنا في ذمها وذكر آلامها، فهي غربة الأوطان، وعلى الرغم من أنها أيسر وأدنى، إلا أنني لا أجد لها صبراً.