الشاعر السوداني يوسف الحبّوب ..قصائد بعين الكاميرا.. تقرأها عين القلب!

145
يوسف الحبوب
Picture of د. عبد المطلب محمود

د. عبد المطلب محمود

• تراه أنيقاً هادئاً لا تكاد تسمع صوته إن حدّثك، لكنه في نصوصه الشعرية التي أحسن «ارتكابها» نثراً، فعُد من جيل التسعينيات بين شعراء قصيدة النثر في السودان، مثلما جاء في (انثولوجيا قصيدة النثر في السوان)، يدفع بما في أعماقه من عبث، حدّ الطيش المجنون أحياناً،  ليترك للشعر وحده «ارتكاب» ما يشاء : يُبصر ما في العمق الجوّاني، يهذي، يندفع صارخاً أو ساخراً، من دون أن يتكلّف مصانعة العبارات أو نحتها، فكأنه يعتمد نصف بيت الجواهري الكبير : «فخلِّها حُرّةً تأتي بما ترِدُ»!

فبعد مجموعتين فقط أصدرهما (محاولة لتسلّق ظل الوردة/ 2016) و(فزّاعة تلوّح في ظهيرة يوم بطيء/ 2024)، أصدر أخيراً ثالثته (نصوص بصَريّة 35 ملم) عن دار صفصافة للنشر في القاهرة قبل أسابيع. وإن سألته عن قلّة إصداراته لأخبرك ببساطة : «أنا شاعر مُقل، لأن الكتابة تُرعبني، تأخذني من ياقة قميصي، لا أتحمّل الحروف، خاصة حرف أ، إن هذا الحرف بالذات، يُخرج لي لسانه»، لذا تأخر يوسف منذ عرفته في تسعينيات القرن الفائت، حتى منتصف العقد الثاني من هذا القرن، متوجساً قبل أن يُصدر مجموعته الأولى التي سرعان ما عُرف بها، والتي تُرجمت إلى اللغة الفرنسية وانطلقت به مشاركاً في مهرجانات شعر عالمية؛ في باريس والمكسيك وعدد من عواصم العالم.

     ومع إن الصديق الشاعر يوسف الحبّوب محامٍ تعرفه ساحات القضاء في (مسقط) بسلطنة عُمان منذ عشرين عاماً، لكنه صار معروفاً أكثر بإدارته منتدى للمبدعين السودانيين، شعراء وروائيين وموسيقيين وسينمائيين، بل انغمر في عالم هؤلاء الأخيرين حدّ أن أفاد من وسيلة عملهم (الكاميرا)، ليجعل عين هذه الآلة في خدمة ما رغب في إطلاقه ـ مجتهداً ـ من نصوص مجموعته الشعرية الثالثة، موضوع قراءتنا هذه، التي قدّم لها بتنويه كتب فيه : «هذه نصوص بصَرية.. قد تُقرأ بالعين المجرّدة.. أو بالنظّارات الطبيّة.. إلا أنه يُفضَّل قراءتها بالقلب»، ثم جعل إهداءها لأربعة من أصدقائه السينمائيين، ما دامت الكتابة المباشرة ترعبه، مثلما قدّمنا قبل سطور، ولاسيما إن العدسة السينمائية سعة (35 ملم) تجمع الضوء وتشكل صورة على الفيلم، ولها غالق يتحكم في مدة تعرّض الفيلم للضوء، يساعد المصور على «تأطير الصورة وتحديد اللقطة»، مثلما يخبرنا المتخصصون.

     لنقف الآن على نص المجموعة الشعرية الأول (احتفاء)، الذي أهداه الشاعر «إلى الشعر في يومه العالمي»، متتبّعين عين عدسته في التعرف على ما أوصلته إليه. لقد افتتح الحبّوب النص بـ : «لقد قررتُ/ أن أحتفي بك/ وحدي/ هكذا…../ وبطريقتي الخاصة/ …/ قد أختصر الأمر كما ينبغي/ في زغرودة عند الواحدة من ظهر كل موعد/ فترتجّ بك ومعك الأرجاء والعناصر/ عناصر الشعر/ ودماء الشاعرات والشعراء الأرجوانية اللون/ وتزدحم بك ساحات البلاد بطولها وعرضها/ شوارب أبنائها اليافعة/ الرفيعة/ وقرنفل حَبّ شباب الصبايا/ التي تشعّ من وجناتهنّ اللامعة/…»، ليقدّم صوراً متحركة ملوّنة في آن تختصر ما في ساحة الاحتفاء بالشعر من «لقطات» لملمتها العدسة في هذه الزغرودة، ليتابع اللقطات التي أظهرتها العدسة من بعد : «ومن غرائب الأمر/ وفي هذه الساعة/ الخامسة والربع صباحاً/ وأنا أتناول أمراً عاديّاً جداً/ كنتَ شاخصاً أمامي/ وكنتُ كعادتي أيها الشعر/ أحتفي بكَ وحدي بطريقتي الخاصة/ أ ـ ز ـ غ ـ ر ـ د وأصيح/ أخرجي أيتها الوعول البريّة/ اخرجي عن صمتك/ أيتها الحمامات الوديعة/ كي نقرر لوحدنا/ شكل الاحتفال بك/ أيها الشعر/ القوي المتعاظم»(ص16).

     إنها لقطات العدسة العجيبة التي منحت الزغرودة معادلات بصريّة متنوعة؛ مساحة مكانية واسعة، وجمعت أوقاتاً زمنية متفرقة، وأبانت عما لا تستطيعه الكتابة ـ مثلما جاء في النص ـ من ألوان مناديل وأراجيح أغنيات، وأسمعت من حوار لطيف مع الشعر، وصياح بهجة وانتشاء، التقت كلها في قلب الشاعر المحتفي بصديقه الشعر، بطريقته الخاصة جداً مثلما أراد.

أما في النص الثاني (ارتباك) فسيختلف ما سجلته العدسة. إنها رأت كل شيء مرتبكاً؛ اليد المرتعشة، الحاجب الأيمن، أسفل الجفن، رائحة الحقل، زهور البساتين التي تجاور المقبرة العامة، الزجاج ومقابض الأبواب، الضحكة الضاجّة بخفّة من دون أن تطير أو تعوي، لكنها رأت في الوقت نفسه أشياء مما لا يُرى في العادة؛ الوجد، تثاؤب الموت والفكرة، وتناسل الحبّ وما يُعلَم من ملحقاته، التي سكت عنها الشاعر كمن أفاد من عملية مونتاج حقيقية، كونها من العمليات الأساسية في أي عمل سينمائي واقعاً.

في النص السابع (صورة) سيوقفنا الشاعر بدءاً من عتبة العنوان على عملية تصوير سينمائي متكاملة. سنقرأ أوامر مخرج : «ارجعوا إلى الخلف../ قليلاً../ وابتسموا./ ارجعوا../ هناك عند الرصيف/ أعني فوقه/ اتركوا البحر خلفكم تماماً/ وابتسموا/ قليلاً/ قليلاً إلى الخلف/ تجمّعوا/ تماسكوا/ وابتسموا/ ارجعوا قليلاً/ قولوا :شيز …/ ارجعوا قليلاً…/ … ها قد وقعتم في البحر/ وقعتم في الفخ/ «تك»..، حتى لتبدو أوامر الرجوع المكررة المقترنة بأوامر الابتسام المكررة كلاماً عاديّاً لا يبوح بالقصد الشعري ، لولا خروج الشاعر بالنص إلى دال (الفخ) في مقابل دال (البحر)، الذي يحيل إلى حالة مكر ساخرة مما يجري في خارج النص، لخصته عدسة كاميرا الشاعر بإرادة مخرج لم نسمع في المشهد غير صوته الآمر، فنابت أوامره الحاسمة عن أحوالنا العامة في بلداننا المكبلة بما يريده لنا الآخر المتحكم بنا، ويا لها من إرادة شرّيرة غاشمة.

وسنقف في النص العاشر (تنويه) على ما سيُكمل حالة المكر الساخرة، ولكنْ بصيغة تبدو متقاطعة مع تلك التي قرأناها في النص السابع، إذ بينما يعدد الشاعر مواصفات مريدي الشر بالناس؛ مالكو مدن الذهول، شاغلو الوظائف العليا، والكون باللامبالاة وعدمها، بالضحك، والصعلكة وغيرها كثير، من دون أن يسميهم بأسمائهم المباشرة، ينتهي إلى : «أنتم/ العابثون بنا/ والعابثات/ سنقضي عليكم/ جميعكم/ الأحياء منكم والأموات»(!!). فهذا التحدّي الذي التقطته عدسة كاميرا الشاعر، سرعان ما ينكشف خواؤه وتنكشف معه سذاجة المتحدي غير المرئي، الذي ربما بدا أقرب إلى المجانين عندما قرن الأموات بالأحياء، حين هدد بالقضاء على «العابثين بنا»(!!) فهي لقطة من مشهد كاد يُدخل السعادة علينا ويثير الزهو فينا ـ نحن المتلقين ـ لو لم تدفعه مفردة (الأموات) خواء ونقص شنيع في العقل.

قبل هذا؛ كان الشاعر في نصَّيه الثامن (سوناتا)، الذي أهداه إلى صديقه الشاعر والمغني السوداني (كمال الجزوَلي)، تحت عبارة «مرثية مفعمة بالأسى»، والتاسع (كائنات) الذي جعله مخصوصاً لاستذكار مشاهد متقطعة التقطها من طفولته البعيدة، أدار عدسة قلبه نحو كون شخصي مفعم بالحزن والوجع، أشرَكنا في ملاحقته في أجواز السماء وفي أصداء أغنيات وصفها بـ «الذهبيّات»، كما في النص الثامن، وفي أزقة ودروب مدن سودانية وفضاءات حياة لم تبقَ إلا في الأعماق، ولو لم يستخدم الشاعر العدسة (35 ملم) لالتقاطها لما أمكنه موافاة متلقيه بها.

في النص الحادي عشر/ الأخير من هذه المجموعة الشعرية (حنين)، الذي ألحق الشاعر بعنوانه عبارة «نص ضد الحنين»، ستنقل إلينا عدسة كاميرا الحبّوب لقطات متفجّرة بما تعنيه المفردة، لأنها تشاكس الرغبة بالحنين واستدرار الدمع من العيون، جمع فيها بين الحواس الإنسانية الخمسة المعروفة، وبين الأحاسيس والمشاعر الجوّانية غير المنظورة بـ «العين المجرّدة»، بل المحسوسة بعين القلب بالفعل، لأنها مزيج من الصمت والارتباك الذي عرفناه في النص الثاني، ولكن باتساع أمدائه لتشمل ما في العالم وما حول إنسانه. فبينما ينطلق النص من عبارات ناريّة  مثل : «سوف لن أمنحكم/ آخر الكلام/ وصيحات الأمهات/ والطمأنينة/  سوف أرميكم بأعقاب السجائر/ وأمنعكم من تلقي المكالمات الهاتفية/ والرسائل الصوتية/ ولحافات الأسرّة وما قد يحدث…/ من قهقهات/ فرط التذكّر،/ وعجائب الدعابة/ سرّاً/ في الخفاء البيّن/ أو العلن المتاح…»(!!) سرعان ما سيُرينا كل شيء من حولنا في حالة ارتباك : 

النيل والنخيل والبرتقال وشاشة الكومبيوتر، وشاشة الهاتف الجوال، وسيرتبك أكثر غير هذا كله. إنه سيُرينا ارتباك : خادمة المنزل، وصوت المغني ومحيّاه «الذي كان أنيقاً»، ويرتبك الطريق السريع، والضجّة والموسيقى، وأغطية مجاري الرصيف، وقهقهات السكارى، والقصائد البعيدة التي في الذهن، والخلايا النائمة، وخلافات الأزواج، وبيوت الأفراح، والصديق الذي «كان بالأمس يبوح لك بسرّ محبته/ لبنت صديقك الآخر»، و»سترتبك الكتب، والعطر المفضّل،….، وبائعات الشاي وصانعات الأرق، وجهود شبان الحي/ في توزيع عادل/ للسلطة والثروة والماء والوجه الحسن»(!!) ليعلن عبر عدسته كمن يُخاطب مشاهديه من شاشة تلفاز أو سينما غير مرئية، بأسلوب منفعل لشخص مجنون أو يكاد : «فأنا ضد الحنين/ وضد تواتر الذكريات/ أنا ضد اليقين/ ضد صبر القابلات/ وقلق الأمهات، ضد ما يُحاك ي ظلمة الليل/ وتوهج نهارات الغياب/ ضد فولاذ الغلظة/ واستمارات الأنين/ ضد السماء اللامتناهية…»، لينتهي من هذا كله إلى : «أُبشّركم/ نعم/ أنا ضد الحنين…/ يسقط الحنين»(!!)

لقد طالما عرفتُ الصديق الشاعر يوسف الحبّوب شاعراً مختلفاً، أمسك بيد قصيدة النثر وطاف بها مثل طفلة وترك لها حرية الطواف به حيثما تشاء، وها أدخلته في عالم السينما من باب الشعراء المبدعين.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *