

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• فلقد مدّت لنا الأيدي الصديقة
وجه غاندي وصدى الهند العميقة
صوت طاغور المغني
بجناحين من الشعر على روضة فن
هاجر الهنود الى السودان قبل أكثر من مئة عام عبر ميناء سواكن ومنه إلى مدينة بورتسودن والتي استقروا بها وانطلقوا منها إلى بقية مدن السودان . (لوشن امارشن شاه) هو أول هندي جاء الى السودان مهاجراً من عدن واستقر في سواكن وعمل في تجارة العطارة والاقمشة كشأن الهنود الذين قدموا من عدن وحضرموت . أعقبت هجرة (امارشن شاه) هجرات اخرى الى شرق السودان امتدت الى كسلا ثم بورتسودان بعد أن تحولت الميناء من سواكن الى بورتسودان . معظم هجرات الهنود كانت من ولاية كجرات المتاخمة لمدينة بومبي . تركز عدد كبير من افراد الجالية الهندية بمدينة كسلا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وعندما هاجم الطليان كسلا دخل الهنود تحت حماية السيد الحسن الميرغني في مسيده لذلك نشأت صلات مودة ومحبة بين السادة المراغنة والجالية الهندية في كسلا .

اسهم الهنود في ارساء بنيات التحديث في الحياة السودانية على مستوى المؤسسات فقد استعان بهم (كتشنر) كفنيين ومهندسين وعمال في بناء سكك حديد السودان. كما امتد اسهامهم الى مجالات فنية متخصصة كالزراعة والطب والتعليم. من الأطباء اشتهر الدكتور (انيل كومار) مدير مستشفى أم درمان التعليمي وجراح المسالك البولية والدكتور (كرت كومار) اختصاصي العيون بمستشفى الوالدين . من المعلمين اشتهر (حمادة شاه) استاذ الرياضيات بمدرسة أم درمان الاميرية الوسطى وأساتذة مادة العلوم (راجبوتات) و (طاهر حمداني) الذين درسوني في مدرسة أم درمان الأهلية الثانوية الى جانب دفعتي الطالب الهندي (جبركاس راتيلال) . عمل معظم هنود السودان في مجال تجارة العطور مثل السرتية والاْقمشة مثل القنجة والدمور بجانب المنتجات المستوردة والأزياء النسائية مثل توب الساري التي اشتهرت بها محلات (حسين بنده) في أم درمان والهدايا التي اشتهرت بها وكالة (ابراهيم ميرزا) في المحطة الوسطى بالخرطوم . كان للهنود جالية وكانت لهم مدارس خاصة وفي أم درمان صار الهنود مثل غيرهم من الجاليات جزءا من المجتمع الأمدرماني . الشارع الواقع جنوب سوق الصاغه كان يسمى بشارع الهنود ممتدا جنوباً حتى ميدان الاسكله . سمي بشارع الهنود لأنه كان يضم كبار التجار المستوردين وكلهم من الهند وكان أشهرههم التاجر (سامجي راجي ويراني) . كانت هناك مجموعة من منازل الهنود تقع خلف نادي الخريجين بأم درمان و منزل في حي البوستة يسمى بمنزل الهنود . وفي مجال الرياضة اشتهر (ممي شاه) لاعب فريق الهلال في الستينات .
بعض الشخصيات الأمدرمانية ارتبطوا بالهند بشكل أو آخر نذكر منهم :
(خضر رحمة الله الياس) المشهور باسم (خضرالحاوي) كان في الخمسينات يسافر إلي الهند في عدة رحلات بغرض التجارة وجلب البخور وكل ما له علاقة بالعطارة على نسق أعمامه أصحاب محلات التيمان والتي صارت معلما بسوق أم درمان ثم انتشرت فروعها في أم درمان . في واحدة من تلك الرحلات مكث في الهند سبعة أعوام تعلّم خلالها فنون الألعاب السحرية وعاد حاويا خارقا في أواخر الخمسينات ليصبح الحاوي الوحيد في السودان . خضر الحاوي هو والد الموسيقي البارع (عبداللطيف خضر) .
الشيخ (حامد الأمين العمرابي) و لد في جبل أم علي ثم انتقل الى أم درمان وسكن في حي البوستة بمنزله بشارع محمد بك حسن المؤدي إلى استاد الهلال في مواجهة مدرسة أم درمان النموذجية . يعتبر من علماء الدين وأساتذة العربية في المعهد العلمي بأم درمان و قد خصّص في منزله خلوة للعبادة و التدريس و شهد ذلك المنزل ولادة أبنائه (مصطفى) و (عبدالله) و (الأمين) و سيد) (وبشير) و(عدلان) . تميزت تلك العائلة بالتناقضات في التوجهات الفكرية فنجد فيها الإسلامي والبوذي و الشيوعي و اللامنتمي والأديب و الحديث عنها يطول . إبنه (مصطفى حامد الأمين) كان مدرسا في المدارس الوسطى و في الخمسينات سافر الى الهند ثم عاد الى أم درمان معتنقا الديانة البوذية كأول من اعتنق تلك الديانة في السودان و ربما في كافة البلاد العربية. أوائل الستينات كنت أشاهده واقفا أمام خلوة والده ومرتديا زي البوذيين المعروف بلونه البرتقالي .
(موسى قسم السيد عبدالكريم كزام) الشهير باسم (جحا) أقنعه صديقه وهو فنان تشكيلي هندي يدعى (مهندرا) بالسفر معه إلى الهند للتمتع بجمال تلك البلاد الساحرة واكتساب بعض الخبرات فى الفن التشكيلي . سافر معه ثم عاد الى أم درمان حيث أصبح رساما مشهورا و تخصص فى رسم وجوه الشخصيات المعروفة في المجتمع . لوحته الشهيرة للأمام المهدي مقتبساً إياها من ملامح وجوه أولاده وأحفاده وكذلك لوحات السيد على الميرغني والرئيس إسماعيل الأزهري ورسوماته على فتيل ريحة بت السودان وريحة السيد علي وحلويات سعد و كريكاب ما زالت فى ذاكرتي . قادته موهبته وشهرته التى تجاوزت الحدود إلى مصر حيث تم التعاقد معه للعمل بأستديو مصر لرسم إكليشيهات الأفلام والتى كانت عبارة عن لوحات دعاية للفيلم تلصق على جدران ومداخل دور السينما . قام (جحا) حينها برسم إكليشيهات معظم الأفلام المصرية القديمة التى أنتجها أستديو مصر فى تلكم الحقبة . لوحة دعاية الفيلم التي كانت تجوب بها عربة الكارو في شوارع أم درمان لا تزال في ذاكرتي . كما أذكر أن (جحا) كان يرتدي دائما الزي الهندي و هو عبارة عن قميص طويل يصل إلى تحت الركبة و سروال طويل و طاقية من القماش نفسه والذي أصبح موضه في هذه الأيام ومشهورا باسم «على الله».
شارك المقال