
سلطة المعرفة في السودان: المثقف بين دور التأثير ومحنة الصمت

تحقيق : نبوية سرالختم
حين تتكلم البنادق، من يجرؤ على أن يكون صوتاً مستقلاً؟
• حين تعمّ الفوضى، ويغدو الخراب نظاماً، لا يُستدعى المثقف ليشهد فقط، بل ليُعيد ترتيب الفوضى ذاتها. دوره لا يُقاس بترف اللحظة ولا رفاهية الاستقرار، بل بقدرته على صوغ المعنى من داخل الفقد، وإعادة بناء الوعي حين تتفكك البنى الاجتماعية، السياسية، والمعرفية.
لكن هذا الدور لم يكن دوماً على هذا النحو الدفاعي أو الهامشي. فالمثقف السوداني، قبل الحرب، كان يتمتع بموقع خاص داخل الحقل العام: كان منتجاً للسرديات، وصاحب رأي في السياسة والاجتماع، وحارساً معرفياً ضد السلطوية والتزييف.
من قاعات الجامعات، إلى صفحات الصحف، إلى منصات النقاش العام، لعب المثقف دوراً مركزياً في نقد الدولة، وفي إعادة مساءلة الخطابات الرسمية والمعارضة معاً. بل كان – في كثير من الأحيان – هو من يصوغ المصطلحات، ويؤطر النقاش، ويقترح البدائل.
غير أن اندلاع الحرب في أبريل 2023 قلب المعادلة رأساً على عقب. تفككت الدولة، وتلاشت المؤسسات، وسقطت الحريات العامة، ووجد المثقف نفسه فجأة في زمن بلا مركز، بلا منابر، بلا جمهور متماسك، وأحياناً بلا لغة قادرة على وصف ما يحدث.
فهل ما زال له سلطة معرفية في هذا الواقع الجديد؟ أم تحوّلت سلطته إلى مجرد سلطة أخلاقية – يُحترم فيها كرمز، لا كمؤثر؟ هل يستطيع أن يؤدي دور «الضمير» وسط الفوضى؟ أم يُطلب منه الصمت، أو يُضغط عليه ليتحوّل إلى تابع لهذه الجهة أو تلك؟
هذا التحقيق لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يحاول استقصاء تحولات موقع المثقف السوداني، ما بين ما كان عليه قبل الحرب، وما صار إليه في قلب الخراب: من بقي مخلصاً للمسافة النقدية؟ من تحوّل إلى واجهة لخطاب مسيّس؟ من صمت؟ ومن بقي يكتب، رغم أن لا أحد يقرأ؟
أولاً: من بقي يتحدث؟
مع اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، وجد كثير من المثقفين أنفسهم في مواجهة سؤال وجودي: هل يواصلون الحديث في فضاء تغمره النيران والدعاية العسكرية، أم يصمتون اتقاءً للخطر، أم يصطفّون مع أحد أطراف الصراع بوصفه «الشر الأقل»؟ رغم العنف والانهيار المؤسسي، واصل عدد من المثقفين الحديث، من داخل السودان أو المنافي. لم يكن صوتهم صاخباً، بل أقرب إلى الهمس في زمن الضجيج، لكنه واصل تقديم خطاب يحاول الحفاظ على البعد النقدي، والتفسير العقلاني، ورفض الاصطفاف التلقائي. في هذا السياق، برزت بعض الكتابات في المنصات الرقمية، وأخرى في صحف ومواقع إقليمية ودولية، تجتهد في تأطير ما يجري بلغة تحليلية، لا دعائية.من بين هؤلاء، برزت مقالات أكاديميين وكتّاب مثل الدكتور حيدر إبراهيم، والدكتور محمد محمود، وأصوات شابة على السوشيال ميديا تحاول تفكيك خطاب الحرب دون الوقوع في فخ الحياد السلبي. حافظ بعض هؤلاء على ما يُعرف ب»المسافة النقدية»، وهي قدرة المثقف على أن يكون شاهداً ومحللاً دون أن يتحول إلى جزء من ماكينة الحرب أو صدىً لدعاية طرف ما.
ثانياً: من غادر؟
أجبرت الحرب عدداً كبيراً من المثقفين على مغادرة البلاد. أُغلقت الجامعات، توقفت الفعاليات الثقافية، وانهارت المؤسسات الإعلامية. وجد الأكاديميون والباحثون والكتّاب أنفسهم دون عمل، ودون منبر، بل ودون مدينة آمنة هاجر الكثير منهم إلى مصر، كينيا، أو أوروبا، حيث يحاولون إعادة بناء حياتهم، وربما أدوارهم. في بعض الحالات، كانت المنافي فرصة لإعادة اكتشاف الذات الثقافية، والانخراط في جهود التوثيق، أو الكتابة التأملية من مسافة آمنة. في حالات أخرى، كان المنفى صمتاً قسرياً، أو قطيعة مؤقتة مع الحقل العام بعض هؤلاء المثقفين حاولوا إعادة إنتاج دورهم عبر المنصات الرقمية، مثل النشرات المستقلة، المدونات، أو البودكاست، لكن بقيت هذه المساعي محدودة التأثير، في ظل انفصالهم عن المشهد اليومي في الداخل تبقى هنا إشكالية كبيرة: هل يمكن لمثقف مهاجر أن يكون فاعلاً في واقع يتغير بسرعة على الأرض، وسط أجيال جديدة تتشكل تحت وقع العنف والشتات؟ أم أن السلطة المعرفية تصبح منفية أيضاً، حين يُنفى صاحبها؟
ثالثاً: من صمت؟
في ظل الاستقطاب الحاد والرقابة الصارمة، اختار عدد كبير من المثقفين الصمت. ليس خوفاً فقط، بل أحياناً يأساً من جدوى الخطاب في زمن الدم والانقسام. آخرون صمتوا لأنهم لا يريدون الوقوع في فخ الاصطفاف أو الاستغلال من أحد طرفي الحرب.الصمت، في بعض تجلياته، كان موقفاً نقدياً أيضاً. لكنه أفقد السلطة المعرفية للمثقف شيئاً من حضورها في النقاش العام، وجعل الفراغ يُملأ بخطابات جديدة: شعارات الحرب، العاطفة، الشعبوية، وأحياناً التضليل الإعلامي بعض المثقفين الذين صمتوا علناً، واصلوا الكتابة الخاصة، أو دعم المبادرات المدنية سراً، لكن تأثيرهم ظل محدوداً، وغير مرئي للرأي العام. وهو ما طرح سؤالاً عميقاً: هل المثقف موجود فقط حين يُسمع صوته؟ أم أن وجوده المعرفي يمكن أن يبقى حياً حتى في العزلة؟
رابعاً: من تحوّل إلى أداة في خطاب سياسي أو عسكري؟
جانب آخر أكثر تعقيداً، هو تحوّل بعض المثقفين إلى واجهات خطاب سياسي، أو دعاية عسكرية.
استقطبت أطراف الحرب عدداً من الكتاب والأكاديميين والإعلاميين إلى صفوفها، لا فقط كمؤيدين، بل كصناع خطابات تبريرية: ينتجون سرديات تشرعن الحرب، تهاجم الطرف الآخر، وتُلبس الصراع ثوب «الوطنية» أو «العدالة» وفقاً للجهة التي يخدمونها في بعض المقالات والتدوينات والمنشورات، تحول خطاب مثقفين معروفين من التحليل النقدي إلى التجييش.
ظهر هذا جلياً في خطابات تؤيد الجيش السوداني دون تحفظ، أو تُروّج لخطاب الدعم السريع بوصفه «قوة تغيير»، أو حتى تلك التي تحاول تسويق حلول ثالثة دون مساءلة الجذور البنيوية للأزمة ظهر أيضاً نمط من المثقفين الذين تبنوا خطابات الهوية العرقية أو المناطقية، بما يخدم أجندات الأطراف المتصارعة، وهو انحراف خطير في وظيفة المثقف، وتحول من صانع وعي إلى صانع استقطاب هذا التحوّل يُضعف سلطة المثقف المعرفية، إذ يحوله من منتج معرفة إلى أداة دعائية، ومن ضمير نقدي إلى ناطق باسم سلطة أو جماعة.
خامساً: المثقف والاصطفاف تحت الضغط
في حالات كثيرة، لا يكون الاصطفاف خياراً حراً، بل تحت التهديد أو الإكراه أو الحاجة للبقاء. مثقفون داخل السودان قد يضطرون لمجاملة القوى المسيطرة في مناطقهم من أجل البقاء أو العمل.
آخرون يخشون فقدان دعم مالي أو سياسي في حال اتخذوا موقفاً مخالفاً ومع ذلك، تبقى هذه اللحظة اختباراً صارخاً لدور المثقف كصاحب سلطة معرفية: هل يمكنه أن يقول «لا» في زمن يُكافأ فيه الصمت، ويُعاقب فيه الكلام؟ هل يمكنه أن يصنع خطاباً بديلاً خارج اصطفافات الحرب، دون أن يفقد جمهوره أو حياته؟
ربما لا نجد إجابة حاسمة، لكن هذه الحلقة تحاول الإضاءة على المسارات المختلفة التي اتخذها المثقف السوداني في لحظة الخراب، بين من قاوم، ومن انكفأ، ومن صمت، ومن تحوّل إلى خادم أجندات.
شارك المقال