• النسيان ليس غياباً، بل حضورٌ خفيٌّ يتوارى خلف ستار الوقت. هو ظلّ ذكرى كانت يوماً نابضة، ثم هدأت، لا لأنها تلاشت، بل لأنها قالت ما يكفي ومضت.
النسيان لا يمحو، بل يعيد ترتيب الوجع في رفوف الروح، يبدِّد فوضى العاطفة، ويمنحنا المسافة الآمنة لننظر لِما كان، من زاويةٍ لا تنزف.
إنه فعلٌ دفاعيٌّ، تمارسه النفس حين تئنّ تحت ثقل التفاصيل، وحين ينهكها الحنين فتلجأ إلى الصمت، لا خيانةً لِما كان، بل حفاظ على ما تبقّى منها. فالمُنسى لا يموت، بل يتحوّل: إلى حكمةٍ تستتر خلف الابتسامة، أو شجنٍ يعبر في غفلةٍ من الذاكرة، في رائحة المطر، في أغنيةٍ قديمة، في نظرةٍ تشبه من غابوا ذات مساء.
النسيان نهايةٌ ناعمة لمرحلةٍ خشنة تفاصيلها، وبوابةٌ صامتة نحو نضجٍ لا ضجيج فيه. وهو لا يأتي دفعةً واحدة كما تفعل الفواجع، بل يتسلل كالمطر: قطرةً قطرة، يغسل ما علق فينا من وجع، ويترك خلفه سكينةً لا تشبه الخواء والبرود، بل تشبه النضج حين يبتسم للوجع دون أن ينكسر له.
وحين نظن أننا تجاوزنا، نعود بغتةً منحنين على شبح ذكرى لم تكتمل. لكننا، في العودة، لا نكون كما كنّا: نكون أكثر وعياً، أكثر رحمةً بأنفسنا، وأقل ميلاً لجلد الذات والقلب على ما لم يُنسَ بعد.
فللنسيان جماليةٌ لا تُدرَك إلا حين نكفّ عن مطاردته، ونتركه يأتي حين يشاء.
ويرحل وقت شاء، حينها فقط، نعيش… لا لأننا نسينا، بل لأننا تعلّمنا كيف نَحمل الذاكرة دون أن نحترق بها.