

أ. د. سعد يوسف عبيد
(الليلة الأخيرة)
• مسحنا بنظرة احتقار وقال :
كلكم جلابة أولاد (……)
و تحرك مسرعاً لاحقاً بزملائه وتركنا مندهشين لهذا الكم من العنصرية التي تنضح من هؤلاء الغزاة .. فأحسسنا أننا على أعتاب مرحلة القتل على الهوية والعرق .. اتصلنا بسائق الركشة الذي وافق أن يحملن إلى سوق ليبيا و تحددت ساعة الصفر في تمام السابعة من صباح الغد .. جهزنا أنفسنا للسفر .. وانضم إلينا رفيق خامس يرغب في السفر إلى أهله في مدينة قريبة من ود مدني .. في الليل قال جاري إن هذا الموعد لا يناسبه فأعتذر و تقلص عددنا إلى أربعة .. لم ننم من شدة القلق والتوتر .. تكالبت علي أوجاع الجسد و آلام النفس فاضجعت على سريري كجثة هامدة .. حاولت أن أطبق أجفاني قسراً لكنها عاندتني .. كان الظلام في تلك الليلة دامساً بشكل عجيب .. لكنني رغم ذلك كنت أرى بوضوح كل شيء حولي .. ولا أدري إن كنت أرى الاشياء بعيني أم بقلبي .. وفجأة تملكني الإحساس بأني مفارق هذا البيت و كل ما فيه من محتويات وذكريات إلى غير رجعة .. كان إحساساً موجعاً حاولت أن أفر منه فغادرت الغرفة هرباً من تلك الفكرة .. حمت على غير هدى فقادتني قدماي إلى الشارع .. كان الشارع خالياً و صامتاً صمتاً مريباً .
عند الثانية صباحاً بدأت الأمطار الغزيرة في الهطول بشدة فهرعت إلى الغرفة مرة أخرى فألفيت ذات الأفكار الموجعة تنتظرني هناك .. استمرت الأمطار في الهطول ولم تتوقف إلا عند الساعة السادسة والنصف .. بدأت أفقد الأمل في إمكانية مجيء سائق الركشة لكنه جاء في موعده تماماً إلا أن آخر المنضمين إلينا كان قد تخلف فاقتصر العدد إلى ثلاثة .
وضعنا الحقائب في الركشة .. ثم أخلت إحدى قدمي في الركشة و قبل أن تتبعها الأخرى تملكتني أفكار الليلة الماضية فسحبت الأولى ورجعت مسرعاً إلى داخل المنزل .. طفت بكل الغرف كأنني أودعها .. كنت أسمع رفاق الرحلة يدعونني فلم أرد عليهم لأنني كنت أسيراً لمشاعر لا أدري كيف أصفها فلقد كان قلبي يتمزق من الإحساس بأني مفارق هذا البيت إلى غير رجعة .. هذا البيت الذي تحمل جدرانه ذكرياتي بكل ما فيها من أفراح وأحزان ..نجاحات وانكسارات ..
خرجت دون أن أحمل معي أي شيء سوى مجموعة مفاتيح البيت رغم علمي أن الغزاة كانوا قد كسروا كل الأقفال .. حتى الشهادات والوثائق والصور استحال علي تخليصها من براثن ركام المكتبة . وضعت المفاتيح بعناية في جيبي فأحسست بأني حملت البيت كله في جيبي .. ظل هذا الإحساس يتابعني أينما حللت إذ ما تزال المفاتيح في جيبي حتى الآن تحصنني من أن أفقد الأمل في العودة إن أمد الله في العمر .
ركبنا الركشة وتحركت بنا في الشوارع الجانبية وخاضت بنا الأوحال وبعض الخيران الصغيرة تفادياً لارتكازات الغزاة .. وعندما اقتربنا من سوق ليبيا كان لا بد لسائق الركشة من أن يتوجه إلى الشارع الرئيسي .. ومع دخولنا الشارع تعطلت الركشة فأصابنا قد كبير من الخوف .. الخوف من أن يضيع كل هذا الجهد هباءاً إلا أن الله كان قد أرسل لنا ركشة أخرى فحملنا سائقها و أوصلنا إلى سوق ليبيا .
هنالك وجدنا أزمة في المواصلات العامة .. فالمحطة كانت مكتظة بالمغادرين بحقائبهم .ز أما السوق والطرق المؤدية إليه فقد كانت مكتظة بشتى أنواع المنهوبات .. شاشات .. أجهزة طاقة شمسية .. أجهزة كهربائية بأنواعها .. أثاثات وأواني وملابس و غيرها الكثير .. كأن المدينة كانت قد أفرغت جوفها دفعة واحدة في هذا المكان .. وقد لاحظت أن الباعة لا ينتمون للغزاة فهم من سكان المدينة .. يشترون المنهوبات من الغزاة و يبيعونها بأثمان بخسة إذ يمكنك أن تشتري شاشة أربعين بوصة بخمسة ألف جنيه و ثلاجة بعشرة .. سوق عجيب .. كل المحلات فيه محترقة و مهشمة بينما تعرض البضائع الفاخرة على قارعة الطريق وسط برك الأوحال .
و لما كانت المحطة خالية من المواصلات العامة أصبح أمر وصولنا الحاج يوسف واللحاق بحافلات مدني عسيراً إن لم يكن مستحيلاً .. فلم يكن أمامنا سوى السفر عن طريق النيل الأبيض و تحمل مشاقه .. لكن العثور على حافلاته أصبح هو أيضاً عسيراً إذ أن محطة حافلات النيل الأبيض كانت هي أيضاً خالية من الحافلات و مكتظة بالراغبين في السفر .
و نواصل..
شارك المقال