ما تبقى من سلطة المثقف السوداني في زمن الحرب (1)

57
الحرب

سلطة المعرفة في السودان: المثقف بين دور التأثير ومحنة الصمت

Picture of تحقيق : نبوية سرالختم

تحقيق : نبوية سرالختم

• حين تعمّ الفوضى، ويغدو الخراب نظاماً، لا يُستدعى المثقف ليشهد فقط، بل ليُعيد ترتيب الفوضى ذاتها. دوره لا يُقاس بترف اللحظة ولا رفاهية الاستقرار، بل بقدرته على صوغ المعنى من داخل الفقد، وإعادة بناء الوعي حين تتفكك البنى الاجتماعية، السياسية، والمعرفية.

لكن هذا الدور لم يكن دوماً على هذا النحو الدفاعي أو الهامشي. فالمثقف السوداني، قبل الحرب، كان يتمتع بموقع خاص داخل الحقل العام: كان منتجاً للسرديات، وصاحب رأي في السياسة والاجتماع، وحارساً معرفياً ضد السلطوية والتزييف.

من قاعات الجامعات، إلى صفحات الصحف، إلى منصات النقاش العام، لعب المثقف دوراً مركزياً في نقد الدولة، وفي إعادة مساءلة الخطابات الرسمية والمعارضة معاً. بل كان – في كثير من الأحيان – هو من يصوغ المصطلحات، ويؤطر النقاش، ويقترح البدائل.

غير أن اندلاع الحرب في أبريل 2023 قلب المعادلة رأساً على عقب. تفككت الدولة، وتلاشت المؤسسات، وسقطت الحريات العامة، ووجد المثقف نفسه فجأة في زمن بلا مركز، بلا منابر، بلا جمهور متماسك، وأحياناً بلا لغة قادرة على وصف ما يحدث.

فهل ما زال له سلطة معرفية في هذا الواقع الجديد؟ أم تحوّلت سلطته إلى مجرد سلطة أخلاقية – يُحترم فيها كرمز، لا كمؤثر؟ هل يستطيع أن يؤدي دور «الضمير» وسط الفوضى؟ أم يُطلب منه الصمت، أو يُضغط عليه ليتحوّل إلى تابع لهذه الجهة أو تلك؟

هذا التحقيق لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يحاول استقصاء تحولات موقع المثقف السوداني، ما بين ما كان عليه قبل الحرب، وما صار إليه في قلب الخراب: من بقي مخلصاً للمسافة النقدية؟ من تحوّل إلى واجهة لخطاب مسيّس؟ من صمت؟ ومن بقي يكتب، رغم أن لا أحد يقرأ؟

في محاولة لفهم موقع المثقف السوداني في زمن الحرب الراهن في الحلقة الأولى من هذا التحقيق لا بد من العودة إلى الأُسس النظرية التي تحدد ماهية المثقف ودوره في المجتمع، وكيف يُمارس سلطته المعرفية يقدم الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي مفهوم «المثقف العضوي» الذي يرى أن المثقف ليس مجرد شخص متعلم، بل هو عنصر فاعل في بنية المجتمع، يمتلك القدرة على تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي، ويعمل كصلة وصل بين الفئات الاجتماعية المختلفة. هو جزء لا يتجزأ من حركة اجتماعية أو سياسية، يساهم في إنتاج الأفكار التي تشكل أساس التحركات الجماهيرية أما الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد، فيعتبر المثقف «ضمير الأمة»، أي الصوت الذي يدافع عن القيم الإنسانية، ويتحدث نيابة عن المجتمعات المضطهدة، ويقاوم القمع بكل أشكاله، ويُعيد تفسير الأحداث بما يخدم الحقيقة والعدالة هذان التعريفان يمكناننا من إدراك أن المثقف السوداني، في ظروف الاستقرار، لم يكن مجرد ناقل للمعرفة بل فاعلًا وموجهاً للنقاش العام، منتجاً للسرديات التي تشكل رؤية الجماعة للمستقبل. وهو بهذا يحمل سلطة معرفية تُترجم إلى تأثير مباشر في صياغة الواقع السياسي والاجتماعي فالسلطة المعرفية للمثقف تُعرف هنا بأنها قدرة المثقف على إنتاج المعرفة التي تحلل الواقع، تكشف الخفايا، تفضح الانتهاكات، وتؤثر في الرأي العام وفي الخطاب الرسمي والمعارض على حد سواء.

مع اندلاع الحرب في أبريل 2023، تغيرت خريطة السلطة في السودان، وتقلصت بشكل كبير مساحة العمل والمعرفة المفتوحة. انتقل المثقف من موقع منتج وفاعل إلى حالة من التهميش أو الحياد القسري إذ شهد السودان هجرة مكثفة للمثقفين والباحثين والكتاب نحو المنافي، هرباً من التهديدات الأمنية والعسكرية، أو بحثاً عن فضاءات أرحب للنشاط الفكري والسياسي فالكثير من المثقفين اليوم خارج السودان بسبب الخطر المباشر، ومن داخل البلاد، العديد منهم يخشى الظهور خوفاً من الملاحقة أو التجريم 

وفي ظل تعطل المنابر التقليدية (الصحف المستقلة، الجامعات، مراكز البحوث)، لجأ كثير من المثقفين إلى فضاءات بديلة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحولت أدوارهم إلى «ناشطين رقميين»، ينقلون الأخبار، ويوثقون الانتهاكات، وينشرون تحليلات سريعة. هنا تبرز ظاهرة «المثقف الرقمي» الذي ربما يحل تدريجياً محل المثقف التقليدي، لكنه يعاني من محدودية التأثير وسط تشتيت الجمهور وتضخم حجم المعلومات المضللة.

رغم الدعوات الشعبية أو الإعلامية للمثقفين للانخراط في إعادة بناء الوعي، فإن هذه الدعوات غالباً ما كانت مشروطة أو مترددة، تعكس تراجعاً عاماً في الثقة بأطراف الحقل الثقافي، وتحديات كبيرة أمام المثقف لإيجاد موقع مؤثر.

في هذه المرحلة الحرجة، يتجلى السؤال الحاسم: هل ظل المثقف السوداني مخلصاً لمسافة النقد والحياد، أم تحوّل إلى أداة في يد أحد الأطراف المتصارعة؟

على الأرض، شهدنا نماذج متباينة: مثقفون انحازوا للجيش أو لمليشيات الدعم السريع:

بعضهم يرى في القوات المسلحة «حامياً للوطن»، في حين يرى آخرون في الدعم السريع قوة تحررية. هذا الانحياز أغلبه سياسي، وأضعف استقلالية المثقف النقدية وهناك مثقفون يدعمون لجان المقاومة أو الطرف المدني حيث انتقلت بعض الأصوات لتكون معبرة عن توجهات المعارضة المدنية، لكنها تواجه هي الأخرى تحديات استقطاب الجمهور وتضييق المساحات وكثير من المثقفين اختاروا الصمت، إما خوفاً على حياتهم، أو نتيجة استنزاف قواهم الفكرية والنفسية، ما يطرح سؤالاً حول إمكانية استمرار سلطة المثقف في ظل هذه الضغوط ؟

تشهد البلاد حالياً رقابة صارمة غير رسمية، تنفذها ميليشيات متعددة، تراقب الكتابات والمنشورات، وتهاجم الناشطين والمثقفين، مما أدى إلى اعتقال وإخفاء قسري لبعضهم، حسب شهادات حقوقية محلية.

والصحف المستقلة أغلقت أبوابها أو تحولت إلى منصات تابعة لأطراف النزاع، والجامعات أغلقت أو توقفت عن النشاط الأكاديمي المنتظم، مراكز البحوث مهددة بالتوقف بسبب نقص التمويل والضغط الأمني يضاف لذلك هناك عزوف متزايد من قبل الجمهور السوداني عن الاستماع للمثقفين، فهم يُنظر إليهم أحياناً كطبقة منفصلة عن الواقع، أو غير قادرة على تقديم حلول ملموسة، خصوصاً مع بروز خطاب عاطفي أو ديني أكثر تأثيراً في الجماهير.

ما تبقى من سلطة المثقف السوداني اليوم ليس سلطة كاملة أو موحدة، بل خليط من سلطة معرفية تتآكل تحت وطأة الحرب، وسلطة أخلاقية تبقى ملاذه الأخير، رغم محدوديتها المثقف السوداني يعيش مأزقاً وجودياً بين دور «المنتج والناقد» ودور «الشاهد والصامت»، في ظل رقابة وضغوط سياسية وأمنية، وتفتت المجتمع وغياب منابر التعبير الحر هذه الحلقة كانت استهلالاً لفهم ما تبقى من سلطة، على أن نواصل في الحلقات القادمة لرصد مواقف المثقفين، جمهورهم، وكيف يحاولون إعادة بناء أدوارهم في هذا الزمن المعقد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *