
كانت البداية بـ «قهاوي» في الأسواق يديرها الرجال

أمل عبد العزيز سعد
• بعد قرن من الزمان، كانت فيه القهاوي متسيدة الساحة، تقدم لروادها الشاي والقهوة، وبعضها يقدم الشيشة، وقد كان للقهاوي دور في الحياة الثقافية والفنية والسياسية، إذ كانت ملتقى للشعراء، والمثقفين والفنانين والسياسيين، ولكل طائفة منهم المقهى الذين يتجمعون فيه، لتناول شأنهم.
أما الآن فانحسرت المقاهي، وبرزت ظاهرة (ستات الشاي) ومقاهي الفنادق والمطاعم الكبرى. وفي سرد توثيقي كتبت الصحفية هالة نصر الله
لم تكن مقاهي الخرطوم القديمة متكأ فقط لشرب الشاي والقهوة، بل كانت مجالس للسياسيين والفنانين والأدباء، وتعدّ قهوة أبو زيد بالخرطوم، التي أسسها علي أبوزيد في العام 1905م، من أقدم المقاهي في الخرطوم.
كذلك (قهوة خباز)، التي كان يرتادها أساساً المثقفون والسياسيون، وقهوة المحطة الوسطى التي كانت تابعة لشركة النور والقوى الكهربائية (وزارة الكهرباء)، وبها قسم (الترام)، وكانت تؤجر بعطاءات، وكان قد أجرها أحد الإغريق اسمه الخواجة (ينين) في عشرينيات القرن الماضي، وكان روادها المثقفين، خاصة الذين يبحثون عن عمل حيث كانوا يكتبون طلبات التقديم للعمل في هذه القهوة، ويقرأون الجرايد (استعارة).

أقدم قهوة
يعود تاريخ قهوة علي أبو زيد في الخرطوم إلى السنوات الأولى من القرن الماضي، وتوجد في المكان الذي تقع فيه الآن قهوة الصنايعية شرق القنصلية المصرية، وكان صاحبها علي أبوزيد من الجهادية في قوات المهدية بقيادة عبد الرحمن النجومي التي أوكل لها فتح مصر، وظل بها هناك عدة سنوات، وشهد فيها المقاهي المعروفة في مصر، وعندما عاد إلى السودان بعد سنوات من الأسر، قام بفتح هذه القهوة في سنة 1905م، وفي بدايتها استهجنها الناس. والعم علي أبوزيد ما زالت أسرته تقيم في الجريف غرب، وكانت أول قهوة تقام في السودان، روادها كانوا منذ القدم من الصنايعية والعاملين بالسوق العربي والعازبين.
ومن أهم المقاهي أيضاً في الخرطوم، (قهوة الحلواني) لصاحبها لورد بيرون الحلواني، وكانت عبارة عن قهوة وحلواني وبار، في الموقع الذي نشأ فيه بنك المزارع بشارع عبد المنعم تقاطع الجمهورية، أغلب روادها من الموظفين وأولاد الخرطوم، وأشهرهم الفنان حسن عطية والفنان حسن سليمان، وكانت بالقهوة فرقة موسيقية تعزف أمسية كل سبت، وفي الحديقة المواجهة للقهوة مكان عالٍ للرقص، حيث أقيم البرلمان ومجلس تشريعي الخرطوم، ومن رواد (قهوة الحلواني) رحمي سليمان صاحب ورئيس تحرير صحيفة «الأخبار»، والمحامون.
منشأ للأحزاب
أكبر قهوة في الخرطوم بل في السودان كانت في المحطة الوسطى بالخرطوم، وكانت تجمع كل ألوان الطيف السياسي، وتكونت بها كل الأحزاب السياسية، وكانت ملتقى يجتمع فيها الأصدقاء والشعراء والفنانون والمثقفون، وأيضاً كان يجلس بها الوزراء، وكانت تفتح أبوابها من السادسة صباحاً حتى آواخر الليل وأهم روادها بدر الدين مدثر أمين حزب البعث بالسودان آنذاك، و(قهوة الإخلاص) بتقاطع شارع عبد المنعم محمد مع شارع 21 أكتوبر، وكانت خاصة بالجالية النوبية بالخرطوم.
مقاهي الأجانب
كانت هناك مقاهٍ يديرها الأجانب خاصة الإغريق منهم والشوام، منها قهوة (شاكة) وأسسها ديمتري كريازي، وقهوة (خباز) وكانت عبارة عن مقاهٍ ومطاعم وبارات في آن واحد، ومن المقاهي المشهورة أيضاً قهوة (مرهج) بشارع البرلمان في الركن الشمالي الشرقي لعمارة مرهج، وكان روادها المثقفين وطلاب كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم)، ومن أبرز روادها خليل فرح ومحمد أحمد المحجوب.
وفي عشرينيات القرن الماضي، نشأت قهوة البرابرة (قهوة الشيشة) بشارع عبد المنعم محمد، مقابل الركن الشمالي الغربي لميدان السوق العربي، وأصحاب هذه القهوة من الحلفاويين الذين قدموا من مصر فصارت تقدم الشيشة، واشتهرت بها، وروادها كل أهل السودان خاصة أولاد الريف (المصريين).

قهوة الزيبق
في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت هناك قهوة مشهورة في الخرطوم، تسمى (قهوة الزيبق)، في الركن الجنوبي الشرقي من عمارة الذهب، وروادها أولاد الخرطوم وضواحيها، وصاحبها عثمان الزيبق حفيد الملك بشير ملك الخندق. وهناك أيضاً (قهوة أبوشوشة) محلها الأول جوار نادي العمال في مكانه القديم بالسوق الأفرنجي شرق (قهوة خباز) في شارع يربط بين الجمهورية وشارع الزبير باشا، وروادها من الخرطوم، وتحولت القهوة فيما بعد إلى محلات عابدين عوض الترزي المتخصص في ملابس الجيش. وأيضاً هناك (قهوة التجاني) بميدان المحطة الوسطى بشارع الجمهورية ورحلت القهوة للعمارة الجديدة شمال مدخل الجامع الكبير، لكنها أغلقت في العهد المايوي.
مقاهي أم درمان
أما مقاهي أمدرمان فأشهرها (قهوة شديد)، وقهوة (ود الأغا)، وهي جزء من سوق الموية في المنطقة من السينما الوطنية وحتى الجامع الكبير بأم درمان، و(قهوة جورج مشرقي)، وكانت مجالاً رحباً للشعراء والفنانين والعازفين والمسرحيين منذ أربعينيات القرن الماضي لقربها من (البوستة)، حيث بدأت الإذاعة السودانية بثها.
وهناك أيضاً (قهوة يوسف الفكي)، وهي القهوة الأكثر رقياً، وكان يرتادها كبار الموظفين والمثقفين، وكل هذه المقاهي تقع في نطاق سوق الموية بأم درمان، ولقربها من نادي الخريجين، كانت تنتقل إليها المساجلات والمناقشات والمناظرات السياسية، وكانت تبدأ منها المظاهرات ضد الحكم الاستعماري، وكانت الرقابة البوليسية بهذه المقاهي شديدة، خاصة في عهد نوفمبر (عبود) ومايو (نميري)، ولم يحتمل جعفر نميري التقاء الناس بهذه المقاهي ومناقشاتهم فعمل على وقفها وإغلاقها.
مقاهي بحري
أما مدينة بحري فكانت بها قهوة واحدة مشهورة وهي( قهوة همت) قرب البوستة القديمة، وكانت هناك مقاهٍ في السوق متفرقة مثل (قهوة السليماني)، التي نشأت في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، وكانت من المقاهي الجميلة، وهي ملحق بها مطعم وحلواني، وأغلقت بأمر من حكومة نميري، لأن بها مناقشات ضد الحكومة من روادها.
وفي ظل الأوضاع الراهنة، تطارد مأساة الحرب معظم المواطنين، فقد تركت آثارها على الجميع لكن بنسب متفاوتة، ومن قبل الحرب كانت هناك ظروف مختلفة؛ منها النزوح من المناطق التي أصابها الجفاف والتصحر، والنزاعات القبلية. ومن هؤلاء المتأثرين النسوة اللائي أجبرتهنَّ الظروف على العمل في مهنة بيع الشاي، فمعظمهنّ نازحات من الولايات التي شهدت نزاعاً مسلحاً، وكثيرات منهن علّمن أبناءهنّ من هذه المهنة، فبرز منهم الطبيب والأستاذ والمهندس، ورجل الأعمال وغيرهم.
أيقونة الكفاح النسوي
إن هؤلاء النسوة تحمّلن المسؤولية عند غياب رب الأسرة، فمنهم من قتل، ومنهم من توفي، ومنهم من فُقد، فتصدت الزوجة وحملت على عاتقها مسؤولية أبنائها، ومنهن الأخت التي كافحت لتوفير لقمة العيش لإخوتها عندما فقدوا الوالدين، أو عجز أحدهما أو كلاهما عن العمل بسبب المرض، أو الإعاقة. فأدَّين واجباً نحو أسرهنّ يوجب التقدير والثناء.
وبما أن الغالبية العظمى من بائعات الشاي لجأن إلى هذه المهنة بسبب الظروف الاقتصادية القاهرة.
وأجبرتهن الظروف على الخروج في حر الشمس وقابلن لهيب النار وزمهرير الشتاء، للقيام بمسؤولية إعالة الأسرة، وقد فضّلت بائعة الشاي أن تكسب قوتها بعرق جبينها على أن تمدَّ يدها. فهي جديرة بالاحتفاء بها، وتهيئة البيئة المناسبة لها لتعمل في مكان تتوفر فيه الشروط الصحية، وتشعر فيه بالأمان.
نماذج مشرفة
إحدى النساء احتفت بتفوق ابنتها في امتحان الشهادة السودانية بنسبة نجاح 91.2٪، وهي بائعة شاي تدعى أم كلثوم.

لقب أشجع امرأة
حصلت امرأة أخرى على لقب أشجع امرأة في العالم،
اسمها عوضية محمود، وهي تعمل بائعة شاي في الخرطوم منذ أكثر من عقدين من الزمن.
وتقول عوضية إن نحو 70 في المئة من النساء العاملات في مجال بيع الشاي يعلن أيتاماً، وخصوصاً النازحات من الحرب، حيث توفي أزواجهنَّ نتيجة الصراع المسلح.
ممارسات سالبة
هناك مهمات أخرى تقوم بها فئة قليلة من بائعات الشاي، حيث يجعلن من بيع الشاي ستاراً لأغراض دنيئة،
وهو ما يوجب فرض عقاب رادع عليهنَّ، فبعضهن يضعن الحبوب المخدرة في القهوة والشاي لاستراج الزبون وجعله يعود مرات حتى يصبح مدمن مخدرات.
والأسوأ والأخطر ما ظهر خلال الحرب الدائرة الآن بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع، حيث ضبطت الجهات الرسمية عدداً من بائعات الشاي المتعاونات مع المليشيا.
تنظيم المهنة وضبطها
في ظل حاجة النساء للعمل، بسبب الظروف المحيطة بالبلاد عموماً والأسر، وعجز الجهات الرسمية والطوعية عن توفير الدعم المطلوب للأرامل والمطلقات والأيتام، الذين تتزايد أعدادهم، المطلوب توفير بيئة صالحة لهؤلاء النسوة لممارسة عملهنّ، وذلك بإنشاء أكشاك لإعداد الشاي والقهوة للبيع، مع الضوابط الصحية والأمنية، منعاً للممارسات السالبة، وحفاظاً على المظهر العام للبلاد، فالطريقة المتبعة الآن من انتشار بائعات الشاي في الشوارع بالأسواق والأحياء من غير نظام غير مقبولة البتة، وهذه رسالة في بريد الولايات والمحليات للالتفات إلى هذا الموضوع ومعالجته بما يكفل حق النساء في العمل الشريف، مع الحفاظ على المظهر العام.
شارك المقال