جرح يُباع بالمشاهدات: المطلقات على «تيك توك».. بين التعبير والابتزاز

134
طلاق
Picture of تحقيق: هيثم محمداني

تحقيق: هيثم محمداني

• في زمنٍ تتقلص فيه المسافات وتتسع فيه المنصات الرقمية، لم يعد حضور المرأة المطلقة في الفضاء الإلكتروني – وتحديدًا على تطبيق «تيك توك» – حدثًا هامشيًا، بل أصبح ظاهرة تستحق الوقوف عندها. بين من ترى فيه مساحة للتنفيس وتبادل الخبرات، ومن تعتبره ساحة للفرجة أو حتى الابتزاز… تتقاطع القصص وتتباين التجارب.

فــ«تيك توك» لم يعد فقط ساحة للترفيه العابر، بل تحوّل إلى منبر اجتماعي يعكس صراعات حقيقية، من بينها معاناة النساء بعد الطلاق، ما يطرح تساؤلات صريحة:

هل تعبّر النساء بحرية أم يُستغل وجعهن؟

هل يصنعن وعيًا جديدًا أم يُعدن إنتاج الصدمة؟

وما حدود التعبير حين يصطدم بالواقع الاجتماعي والقانوني؟

بين التمكين والانكشاف

توضح د. نسرين عبدالمجيد حسن،  المستشارة النفسية والباحثة في مجال الإعلام الرقمي، أن وجود النساء المطلقات على منصة تيك توك يشكّل مزيجًا من التمكين والانكشاف، إذ إن مشاركة القصص الحياتية تفتح بابًا للتعبير عن الذات، لكنها في الوقت نفسه تضع المرأة في مواجهة قاسية مع أحكام المجتمع. تقول: «المنصة تتيح للمطلقات مساحة لبناء شبكة دعم وشعور بالانتماء، وهو جانب إيجابي لا يُستهان به. لكن الانفتاح في مشاركة التجارب قد يعرّضهن لمخاطر التنمر، واستنزاف الخصوصية».

وتوصي بضرورة التوعية الرقمية لحماية أمن النساء وخصوصيتهن، وتدعو إلى تقديم دعم مجتمعي فعّال، لمساعدة المطلقات على تحويل وجودهن الرقمي إلى أداة وعي لا عبء نفسي جديد.

الطلاق كجرح غير معترف به

من جهتها، ترى الأخصائية النفسية فاطمة حمد أبوسن، أن الحديث عن المطلقات على المنصات لا ينفصل عن الإطار الأوسع لأزمة الطلاق ذاتها. تقول: «المرأة، لكونها عماد الأسرة، تتحمل أعباء ما بعد الطلاق بصمت. وفي ظل غياب الأسرة الكبيرة التي كانت تؤمن لها دعمًا نفسيًا، تجد نفسها تلجأ لمنصات التواصل لتفريغ ألمها. لكن أحيانًا يكون هذا التعبير مكلفًا أكثر من الطلاق نفسه».

وتضيف: «الحياة لا تتوقف، وما كان كسرًا في يوم، قد يصبح مصدر قوة في الغد. لكن لا تجعلي من جرحك قصة للفرجة، بل اجعليه دافعًا لبناء ذاتك».

من المسكوت عنه إلى العلن

تؤكد الأخصائية النفسية والاجتماعية إيمان محمد يوسف، أن العولمة الرقمية أخرجت الطلاق من خانة «المسكوت عنه» إلى العلن، ووفّرت للمطلقات مساحة للتعبير والبحث عن التوازن النفسي. لكنها تحذّر من تحويل هذه الحرية إلى استغلال، سواء عبر نظرة المجتمع السلبية أو محاولات المتاجرة بالمحتوى: «حين تُختزل التجربة في سعي وراء المشاهدات، يُفرغ التعبير من معناه، وتتحول التجربة من مقاومة إلى استعراض».

وتدعو إلى وعي رقمي ناضج، يحفظ كرامة المرأة، ويعيد صياغة الصورة النمطية عنها في المجتمع.

التمكين الحقيقي لا يبنى بالابتذال

وتختتم الأخصائية  النفسية عائشة محمد عثمان بالتشديد على ضرورة استخدام المنصات الرقمية بحذر. تقول:» حين تُقدّم المطلقة قضيتها عبر وسائل التواصل، يجب أن تلتزم بالضوابط الأخلاقية والقانونية، حتى تضمن أن يكون حضورها تمكينًا حقيقيًا، لا زيفًا مبنيًا على الإثارة».

وتلفت إلى خطورة الانزلاق نحو محتوى يُعيد إنتاج الألم دون معالجة حقيقية: «الإفراط في سرد الجراح دون دعم مهني، قد يعيد الصدمة بدل تجاوزها. لكن يمكن توجيه البوح إلى مساحة ناضجة، لمعالجة قضايا الطلاق بصورة مجتمعية لا شخصية فقط».

من الصوت الخافت… إلى الصدى العالي

تقول «أم لين – L.M» (34 عامًا، مطلقة منذ 4 سنوات، تقدم محتوى دعم نفسي وقانوني):

«بدأت من وجعي… ووجدت حولي نساء يشبهنني. تيك توك لم يكن حلمًا، بل نافذة هواء. لكنّ الهجوم كان مرعبًا. من لا يعرفك يحاكمك بجملة. تعلمت أن أفلتر، أن أتماسك، وأن أقول: أنا هنا لأدعم، لا لأُستَضعف».

وفي حديثها، تظهر أبعاد التناقض: منحتها المنصة جمهورًا، لكنها حرمتها من الأمان أحيانًا. وهذا ما تؤكده «ميساء – M.S» (28 عامًا):

«الثقة رجعت لي عبر عدسة الكاميرا، كل فيديو كان خطوة في الشفاء. لكن عيون البعض تراني مذنبة. يقولون: الطلاق فضيحة. وأنا أقول: التجاوز بطولة».

عندما يصبح الألم محتوى

في زاوية أخرى من المشهد، تتحدث «نُهى – N.A» (41 عامًا):

«تيك توك ليس مجرد منصة، هو فرصة. كنت أخجل أن أنطق كلمة طلاق، واليوم أعلّم نساء كيف يعبرن الألم بكرامة. لكن حتى هنا، يوجد من يسحبك إلى معارك لا تريدينها، ويقيس قوتك بعدد المتابعين لا عمق الرسالة».

وتضيف «سلمي – S.K» (33 عامًا):

«من خلال تجربتي، اكتشفت أن السوشيال ميديا سلاح ذو حدين. نعم، أنقذتني نفسيًا وماديًا، لكن تعرّضت لمواقف مؤذية لما صار أولادي يشاهدون بعض الفيديوهات. كان لازم أعيد ترتيب أولوياتي».

بين السخرية والتحرّش: «اللايك» لا يُطفئ الجرح

ربما تقدم «داليا – D.H» (30 عامًا، مطلقة مرتين) النموذج الأكثر جدلًا:

«اخترت الكوميديا. بعض الناس قالوا عني مستهترة. لكني أضحك من الوجع، لا عليه. للأسف، كثير من التحرشات والرسائل المسيئة تجعلني أندم أحيانًا. لكن الجمهور الحقيقي يفهمني… وهذا يكفيني».

بين القانون والمحتوى: رأي مستشار قانوني

يرى المستشار القانوني محمد حسين الفحل، أن وجود المطلقات على منصات التواصل يجب أن يُنظر إليه من زاويتين: حق التعبير المشروع، ومسؤولية الاستخدام القانوني:

« لكل مطلقة الحق في التعبير عن نفسها ومشاركة تجربتها، لكن حين يتحول هذا التعبير إلى نشر تفاصيل خاصة أو اتهامات ضمنية أو صريحة، فقد تدخل السيدة – دون قصد – في دائرة المساءلة القانونية، خصوصًا في قضايا التشهير أو الإضرار بالأطراف الأخرى كالزوج أو العائلة».

ويضيف:» بعض المحتويات التي تُبث دون وعي قانوني، قد تفتح أبوابًا للنزاعات القضائية، وتضر بمصلحة الأطفال في حالات الحضانة أو النفقة».

ويختم بنصيحة واضحة:» قبل أن تضغطي (نشر)، اسألي نفسك: هل يُمكن أن يُستخدم هذا الفيديو ضدك؟». 

بين الشريعة والقانون: كرامة المطلقة خط أحمر

يشير المستشار القانوني سليمان محمد سليمان، إلى أن مسألة الطلاق يجب أن تُفهم في إطارها الإنساني والشرعي، بعيدًا عن الوصم المجتمعي. ويوضح:» لقد كرّم الله تعالى الإنسان – ذكرًا وأنثى – وجعل بينهما ميثاقًا غليظًا في العلاقة الزوجية، وأباح الطلاق حين تستحيل العِشرة وتتعذّر الحلول الودية، كخيار شرعي يحفظ الكرامة ويصون النفس. فالطلاق ليس إهانة للمرأة، بل مخرج مشرّع يحترم حرية الطرفين، ويتيح لكل منهما إعادة بناء حياته بما يرضي ضميره ويراعي مشاعره».

ويتابع:» للأسف، تستغل بعض الفئات المريضة منصات التواصل لتوجيه سهام التنمر والتشهير نحو المطلقات، ووصمهن بصفات مجحفة لا أصل لها. وهؤلاء – غالبًا – ممن فشلوا في حياتهم، فيسقطون عقدهم على غيرهم، ويسعون لبث الفتن عبر التعليقات المسيئة».

ويشدّد المستشار سليمان على أن:

« المطلقة الواعية تدرك أن الطلاق لا ينتقص منها، بل هو حق شرعي وقانوني، لا يُقلل من مكانتها. ومن واجبها القانوني والشرعي أن تردع أي إساءة تتعرض لها، لا بالصمت، بل باللجوء إلى الجهات المختصة، وفتح بلاغات جنائية ضد أي شخص ينشر محتوى مسيئًا أو مهينًا بحقها».

ويختم بتأكيد قانوني: «التشريعات العربية، وعلى رأسها قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية والعقوبات، تُجرّم بوضوح كل أفعال التشهير والإساءة عبر الإنترنت، وتنص على عقوبات رادعة بحق الجناة. وعلى كل مطلقة أن تدرك أنها محمية بالقانون، وأن كرامتها ليست محلًا للمساومة».

سؤال مفتوح…

لا أحد يملك الحق في إسكات صوت المرأة المطلقة، لكن الجميع معني بأن يتحول هذا الصوت من مجرد صدى للوجع، إلى أداة للتغيير والنهوض.

المنصات ليست شرًا محضًا ولا خيرًا مطلقًا… هي مجرد مرآة: تعكس ما نختار أن نظهره فيها.

فهل تختار المطلقات أن يكنّ جزءًا من التغيير؟ أم يعلقن في فخ البوح المفتوح بلا جدوى؟

 

شارك التحقيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *