
معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• في زمنٍ كانت المواقف فيه تكتب المجد لا البنادق، وكان للرجال وجوه لا تُغسل إلا بماءِ الكرامة، وقف محمد أحمد المحجوب، الأديب والسياسي والقاضي والمهندس رئيس وزراء السودان ووزير الخارجية الأسبق، يهب صوته للحق في ندوة سياسية عقب أول انتخابات بعد الاستقلال، حين كانت البلاد تتلمس خطاها بين بقايا استعمار وظلال الحرية.
لم يكن يوماً رجلاً عادياً في كرسي الحكم، بل كان وجداناً متحركاً، ذاكرة تمشي على قدمين، وحكمةً منسوجة من حروف الشعر ومواقف «الرجل» الدولة.
كانت كلماته تنبض بالدفء، والصدق، والمروءة التي تشبه ضوء الفجر بعد ليلٍ طويل، ورائحة التراب حين تُمطره السماء بقطرات العزة والإباء.
قالها هناك، في ندوة سياسية خالدة، بصوتٍ يليق برجال المواقف العظيمة، وبحضورٍ يليق بالأمانة التي يحملها على كتفيه حين قال:
«وقد اخترنا لأنفسنا حياة التقشف، في منازلنا وفي جهاز حكمنا، حتى لا نمد أيدينا للآخرين، فنكون طوع إرادتهم.
لأن من يستجدي أراق ماء وجهه، ومن أراق ماء وجهه لا يحترمه الناس.
حتى لا يأتي للحكم من يحاول أن يبيع هذه البلاد، أو يجعلها تبيعة لإحدى الأمم، فيكون استقلالها لفظّاً لا معنى له ولا قيمة له.
فنبدأ معركة جديدة، قد تكون معركة دامية، لأننا نريد أن نسترد استقلالاً ونسترد حرية، ليس من بين يدي الأجنبي، بل من بين أيدي الوطني الذي لا يعرف قيمة الاستقلال والحرية لهذه البلاد».
كانت تلك الكلمات أشبه بوصية في زمن الغنائم، وموقفاً من ذهب في زمنٍ كانت فيه المناصب تلمع أكثر من المبادئ.
فالتقشف لم يكن عنده مجرد ضبط ميزانية، بل كان عزوفاً عن الارتهان، وطهارة في القرار، ونقاء في التعامل مع شهوة السلطة والمال.
كان يعلم أنَّ من يُريق ماء وجهه باسم المصلحة، لن يسترده مهما كَسِب من أموال، لأن الاحترام لا يُشترى، والكرامة لا تُقاس بالحسابات البنكية، بل بصفاء اليدين وعلو الجبين.
وما أبلغ تحذيره حين قال:
«حتى لا يأتي للحكم من يحاول أن يبيع هذه البلاد، أو يجعلها تبيعة لإحدى الأمم».
هنا تتجلى عبقرية البصيرة، ونبوءة الرؤية.
فالمعركة الأخطر لم تكن يوماً مع الجيوش الأجنبية، بل مع من يتسلل إلى الحكم بلا بوصلة، ولا جذور، ولا إحساس بثقل الأرض التي يقف عليها.
المحجوب كان يخشى على الوطن من داخله…!
من ذلك «الوطني» الذي لا يُدرك قيمة الحرية لأنه لم يُولد في رحمها، ولم يتنفسها كما تنفسها جيل الاستقلال.
ذلك النوع الذي يخلط بين المناصب والمغانم، وبين الدولة والأسواق، وبين الوطن والصفقات.
كلماته اليوم ليست مجرد ذكرى…!
بل هي جرس إنذار في زمن تكررت فيه الأخطاء، وتناسلت فيه التبعية في أثواب جديدة.
فكم من مسؤول باع القرار الوطني على موائد المؤتمرات..؟
وكم من جهة خارجية أصبحت تتحكم في تفاصيل حياة شعوب كاملة، لأنها وجدت من يمد يده باسم الحاجة شخصية كانت أم عامة…؟
رحمك الله، يا محمد أحمد المحجوب، يا صاحب الكلمة التي لا تشيخ، والمواقف التي لا تذبل.
لقد تركت لنا دستوراً من كرامة، ومعلّقة من نور بأن نعيش على الكفاف بعزة، خير من أن نُطعم الذهب بذل.
في كل كلمة نطق بها، كان المحجوب يعيد تعريف الاستقلال…!
ليس تاريخاً نحتفل به، بل سلوكٌ نحياه، وعقلٌ يُخطط، وقلبٌ ينبض بالوطن لا بالوصاية.
الاستقلال لا يُقاس برفع العلم، بل برفع الرأس، حين نرفض أن نكون تابعين، أو متسولين، أو أرقاماً في قوائم الدعم.
نحتاج اليوم أن نستحضر هذه الكلمة بكل تفاصيلها، أن نضعها فوق مكاتب القادة،
وفي مناهج الأطفال، وفي خطب المساجد والجامعات.
لأننا في زمنٍ تاهت فيه التعريفات، وغامت فيه المفاهيم، ولم نعد نميّز بين من يقود سفينة الوطن، ومن يجري بها إلى الأعماق.
نحتاج أن نعيد بناء مفهوم المواطنة على قاعدة المحجوب…!
أن تحب وطنك بما يكفي لتعيش متقشفاً كي لا تمد يدك، وأن تحترم نفسك كي لا تريق ماء وجهك، وأن تعرف أن من لا يحترمه الناس، لا مكان له في التاريخ.
رحم الله المحجوب الذي خدم وطنه بإخلاص، وترك أثراً عميقاً في مسيرته.
نسأل الله أن يغفر له، ويرحمه رحمة واسعة، ويسكنه فسيح جناته.
فيا أيها السودانيون احفظوا ماء وجوهكم فإن الاستقلال والاستغلال هما مخرجنا الأخير.
وإذا فرّطتم فيهما، فلن تجدوا من يحترمكم وينصفكم لا التاريخ، ولا الشعوب من حولكم.
فالنستقل بقرارنا ونستغل مواردنا تحقيقاً للسيادة في كافة نواحيها.
اللهم احفظ السودان وأهله، وارزقهم الأمن والإيمان، الوفاق والرحمة وحقق النصر المبين على أعداء الله والشعب والدين.
واجمع كلمتهم على الحق والخير والوطن.
آمين
محبتي والسلام
شارك المقال