الفنان أحمد شاويش.. بين الظل و الواجهة

203
شاويش
Picture of عبدالله محمد عبدالله - امريكا

عبدالله محمد عبدالله - امريكا

• من استمع بتأنٍ للفنان احمد شاويش و هو يؤدي اغنيته (تعالي معاي) من كلمات الأستاذ الشاعر محمد نجيب محمد علي ستأخذه الدهشة، لا شك، و ستدور بذهنه أسئلة عن احمد شاويش و أسلوبه الغنائي، و عن مرامي احمد شاويش و مشروعه الفني عموما. و هي أسئلة، متى ما طُرحت هنا، فإنها ستعيدنا إلى الكالاراتورا و تجلياتها في ساحتنا الغنائية.

عندما التحق الشاب احمد شاويش بمركز شباب السجانة في النصف الثاني من السبعينات، قادماً من عطبرة،  كان المركز يعج بأصوات مَن عُرفوا بالواعدين، كان هناك منهم هاشم حسن، البطحاني الحبر، الياس جوهر ، كمال بركية، صلاح عبدالعاطي، جلال الصحافة و عثمان زيدان و آخرون ممن طاب للجمهور اطلاق صفة ( البكاسي) عليهم. لكن أحمد شاويش لم يكن بوكسياً، فقد التحق طالباً بقسم الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى و المسرح، و لم يكن نشطاً في اصطياد حفلات الأعراس و سواها، و كانت زياراته لمركز الشباب متباعدة، يتحلق حوله خلالها مرتادو المركز للاستماع اليه وهو يؤدي أغنيات الفنان ابوعركي البخيت. و قد كان شاويش عازفا مجيداً للعود و في صوته الكثير من التطابق مع صوت عركي الذي كان نجماً امتلك الأرجاء بأغنياته ( بخاف) و مثيلاتها ، و لم تكن تلك الأغنيات  التي تمهّر شاويش في ادائها سهلة المنال عزفاً أو غناءً، مما أكد سمو قدراته الأدائية. 

درس شاويش الصوت و آلة العود و  تخرج و عمل بالأذاعة  مما أتاح له أن يسهم   بقدر وافرٍ في الدراما الاذاعية و المسلسلات التي من بينها البيت الكبير و اب جاكوما غيرها، مستغلاً مواهبه الدرامية  الكامنة و قدرته على وضع الألحان . و قد عمل شاويش على تطوير أسلوبٍ خاص في التلحين و  الغناء، سعى فيه كما نرى لاستغلال  مهارته في العزف و استعراض صوته ذي المدى الواسع و إشباع ميوله الدرامية التي يكشف عنها تعمُّده تجسيد المعاني صوتياُ. فإلى أي مدى وُفق شاويش في تحقيق ما رمى إليه على مستوي جدة أعماله و جودتها و على مستوي تقبُّل الجمهور لها و تنامي شعبيته؟

و لنأخذ مثالا اغنية ( تعالى معاى).في تسجيلٍ لها تعدّى التسع سنوات عمراً، يبدأ الأستاذ شاويش اغنيتة بمقدمةٍ موسيقية  مقتضبة من جزأين، تُعاد عدة مرات قبل أن يبدأ المطلع الذي يقول ( تعالي معاي) و التي يرددها لما يفوق العشر مرات يعمد إلي التنويع في كل منها. و هو يفعل الشئ عينه عند بداية كل مقطع في الأغنية. لن يتخلى شاويش عن نزوعه المستمر للتنويع و استغلال مرونة صوته اللافتة في الترقيق و التفخيم و غير ذلك من تقنيات الأداء الصوتي. و لنر كيف أدّى شاويش كلمة (الأحلام) التي تأتي في نهاية المقطع الأول!  و هو نهج اتخذه في أداء عدة مفردات خلال تلك الأغنية مثل ( لا قدام) و ( سلام) و غيرها. 

يأتي طبيعيا التساؤل البسيط: ما الذي يرمي اليه شاويش من هذه التنويعات الصوتية التي تأتي مفاجئة و تنال من الانسياب المنطقي للحن؟ هل يرمي إلي توضيح معانٍ لتلك الكلمات  يراها كامنةً لا تبدو بكامل أبعادها إلا من خلال تفسيرها درامياً؟ أم أن ذلك  مجرد انسياق منه وراء استمتاعه الشخصي بكلمات اغنياته و الحانها و بلحظة التجلي أمام مستمعيه و السعي لإدهاشهم بمهاراته الصوتية الاستثنائة التي يراوح فيها بين فهد بلان و ابوعركي البخيت.

ايا كانت دوافعه، فإن المحصلة هي ما نستمع إليه الآن من مغنٍ  قضي في ظلال الساحة الفنية أضعاف ما قضاه في واجهتها من سني عمره الفني، لكنه ما زال يسعى جاهداً للتحرر من لونية ابوعركي البخيت التي تشرّب بها منذ بداياته و ما زالت تطل على مستمعيه من خلال نبرات صوته.  لكن يبقى جديراً بالذكر أن شاويش قد أظهر مهارة في معالجة تفاصيل اغنياته و إثرائها موسيقياً، و على غير ما فعل ابوعركي البخيت، فقد ظل متحفِّظاً في استخدام تقنيات التأليف الغربي من هارموني و كاونتربوينت و غيرها، مكتفياً بشئ من التوزيع الذي أسبغ على اغنياته طابع الحداثة و الطرافة. و ربما كان  شاويش، مثل غيره من المغيين الذين تخرحوا في معهد الموسيقى و المسرح يحمل في أعماقه همَّ التجديد و تخطّي القديم، راميا إلى وضْع بصمته المميزة على ألحانه و أغانيه، فاهتدى إلى أسلوب وسَم اعماله فى التلحين و التنفيذ، ظل متميزا به، بلا منازعٍ أو مُقارب. فهل اتاح ذلك لشاويش ان يضاعف دائرة متذوقي فنه و أن يجد متسعاً في الواجهة التي اكتظت بأنصاف المبدعين؟

مهما يكن من أمرٍ فإن شاويش قد أعطانا انموذجاً لكالاراتورا سودانية ربما بدت أكثر وضوحاً في أغنيةٍ أخرى  من كلماته و ألحانه ظلت أكثرَ أعماله رواجاً،  هي أغنية ( عطر الصندل)  التي لا يكاد جزءٌ منها يخلو من إضافة كالاراتورية، لا سيما ختامها و ما قبل الختام حين يبدو شاويش مستغرقاً  متمايلاً طرباً  مردداً ( الله الله  الله) و كأنما قد تحوّل عطرُ الصندل الذي نذر له أغنيته إلى بخورٍ يتصاعد في حلقة ذكرٍ صوفي !

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *