جلابة القطاع العام: القاتل الصامت لما تبقى من الدولة

64
محمد كمير جاهز

محمد كمير

كاتب صحفي

• رغم أن الحرب التي يعيشها السودان شكلت ظرفًا استثنائيًا صعبًا، فإن استمرارية عمل المؤسسات الاقتصادية خلال هذه الفترة لم تُرافقها مبادئ الإدارة الرشيدة، بل تحولت إلى نموذج متدهور من الممارسة الإدارية المشوهة، يبتعد كل البعد عن المدارس والنظريات التي قامت عليها الإدارة الحديثة.

فعلى مدى عقود، تطورت الإدارة كمجال معرفي وعلمي، بداية من المدرسة الكلاسيكية التي ركزت على التخطيط والتنظيم والرقابة، مرورًا بمدرسة العلاقات الإنسانية التي أكدت أهمية العنصر البشري، ووصولًا إلى مدرسة النظم والمدرسة الحديثة التي دمجت الفكر الاستراتيجي مع التحليل البيئي والحوكمة. هذه المدارس لا تقتصر على التنظير الأكاديمي، بل تشكل أساسًا لبناء مؤسسات فعالة، مرنة، وقادرة على مواجهة الأزمات.

لكن في واقعنا الحالي، يمكن ملاحظة كيف تم تجاوز هذه المرجعيات، واستُبدلت بقرارات فردية تميل إلى المزاجية وتفتقر إلى التحليل والتقييم. اختفت ثقافة التخطيط بعيد المدى، وغابت معايير تقييم الأداء، ولم تعد هناك آليات رقابة فاعلة. وكأن المؤسسات لم تعد وحدات تنظيمية قائمة على قواعد إدارية، بل أصبحت تُدار كمتاجر أسرية تعتمد على الولاء الشخصي والعلاقات الخفية في اتخاذ القرار وتسيير الأمور.

في هذا السياق، نشأت ظاهرة تستحق التوقف والتأمل، يمكن تسميتها بـ»جلابة القطاع العام». وهي فئة من موظفين القطاع العام أصحاب المناصب المرموقة تشكلت خلال فترة الحرب والانهيار المؤسسي، وبدأت تتعامل مع مؤسسات الدولة كما لو كانت ملكًا خاصًا لا يمكن أن تعمل بدونها. هذا الشعور المتضخم بالأهمية تحول تدريجيًا إلى سلوك استئثاري، حيث باتت هذه الفئة تتصرف في الموارد والقرارات وكأنها أوصياء دائمون على المرافق العامة، ما خلق حالة من الغبن الخفي وسط الكفاءات المهملة والمهمشة.

ما زاد الطين بلة أن الخدمة المدنية نفسها تعاني منذ عقود من مشكلات موروثة، تتعلق بالبيروقراطية والتسييس وغياب المعايير. لكن خلال هذه الفترة، تفاقمت تلك المشكلات، إذ لم تعد هناك ضوابط لتعيين أو تقييم، وتوسعت شبكة العلاقات الشخصية على حساب الكفاءة، وأصبح التوظيف يتم عبر الولاءات والعلاقات، لا الاحتياجات.

وفي ظل هذه البيئة الهشة، ظهر نوع من التسيّب في تحريك رؤوس الأموال العامة، إذ تُدار المشاريع وتُطلق التوسعات دون دراسات جدوى أو استشارة ، وتُنفَّذ المشتريات دون شفافية أو منافسة عادلة. الأموال العامة تُصرف بأساليب لا تختلف كثيرًا عن سلوك الأفراد في إدارة أموالهم الخاصة، بل إن بعض مظاهر الصرف والترف – كالسفرات والإقامات الفاخرة – تجاوزت حتى ما هو مقبول في المؤسسات الخاصة.

وكل ذلك يحدث في ظل حرب طاحنة وظروف معقدة: انعدام الاستقرار الأمني، نقص الوقود والطاقة، دمار واسع للبنى التحتية، وتراجع حاد في الإيرادات. بدلًا من أن تنكمش المصروفات ويُعاد ترتيب الأولويات، نرى تمددًا في التوظيف غير المنتج، وإطلاق مشاريع لا ضرورة لها، وصرفًا بلا ضوابط وكأننا نعيش في أوقات وفرة.

رئيس مجلس السيادة نفسه تحدث عن هذه الفوضى، وأشار إلى أن بعض المسؤولين استغلوا هذه الفترة لتوظيف الأقارب والأصدقاء. وهكذا لم يعد القرار الإداري يُبنى على معايير موضوعية أو تحليل علمي، بل أصبح مجرد وسيلة لخدمة المصالح الضيقة. الأخطر أن هذه البيئة الإدارية غير الصحية تُهدد ليس فقط أداء المؤسسات، بل تُقوض ببطء ما تبقى من ثقة الناس في الدولة ذاتها. فحين يشعر الموظف المجتهد أن لا مكان له، وحين تُهدر الموارد بلا محاسبة، فإن ذلك يؤدي إلى حالة من اليأس العام، تعرقل أي محاولة جادة للإصلاح أو التعافي.

الخروج من هذا الواقع يبدأ بإعادة الاعتبار للإدارة كعلم ومهنة، وليس كامتياز شخصي يُمنح في زمن الأزمات. لا بد من العودة إلى المدارس الإدارية الكبرى التي قدمت للعالم مفاتيح النهوض المؤسسي: التخطيط، التنظيم، الرقابة، الحوكمة، الشفافية، والمساءلة.

عندها فقط يمكن الحديث عن قطاع عام يؤدي وظائفه بفعالية، ويُدار بمنهجية، ويعيد ترميم الثقة بين المواطن والدولة. إصلاح القطاع العام ضرورة وجودية في سياق يعاني من الانهيار.

نحن نُدرك تمامًا أن الأصوات العاقلة لا تجد آذانًا صاغية في زمن تغلبت فيه الفوضى على المنطق، وساد فيه نمط من الغشاوة يعمي الأذهان عن رؤية الحقائق كما هي. لكن تبقى الكتابة مسؤولية، والتنبيه واجبًا، علّ في التذكير ما يُبقي شعلة الوعي متقدة، ولو وسط هذا الظلام الإداري الكثيف.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *