عن رواية «الملكة وصبي الأفيون».. للروائية  السودانية سارة عبد المنعم

99
رواية
Picture of ادريس زايدى - المغرب

ادريس زايدى - المغرب

• منذ أن قرأت كتاب « الرواية العربية في رحلة العذاب « لغالي شكري، تملكني شعور بلفظة العذاب، والتي جعلتني أتوجس من كل عمل روائي عربي تأهبت لقراءته. فتعمقت الفكرة، من خلال قراءات متنوعة لروائيين عرب، وخلصت إلى أن الرواية العربية تجتر أسئلة تتشابه، لتشابه المرجعيات الثقافية رغم ما يمكن ملاحظته من خصوصيات جغرافية وقيم اجتماعية لا تختلف في العمق إلا بحسب تجربة المبدع في علاقته بمجتمعه ومحيطه. وقد زاد من حدة هذا العذاب ضعف انتشار الإبداع بين الأقطار العربية، فلا يواكبه الفعل النقدي  الجاد زمن صدوره ، إلا محتشما أو نادرا، أو يقتصر النقد على كاتب بعينه دون غيره .وهو ما عمق جرح الإبداع العربي بجعله حبيس محيط خاص. 

ولعل اكتشاف الحاضر عن طريق التناول التاريخي قد مكّن الأديبة الروائية سارة عبد المنعم، من خلق تجربة إنسانية متخيَّلة، متحت قدرتها من التقاط تفاصيل الواقع السوداني، كفعل يربط الأدب بالتاريخ، وبشكل درامي يستوعب تفاصيل الحياة اليومية المعيشة ، والراسخة في الثقافة الشعبية البسيطة، تستنطق عمق الهوية وتنتزع أسئلتها من خلال المد الإفريقي والعربي .

وكقارئ عربي متتبع للشأن الثقافي والأدبي، وكمرافق لثلة من المبدعات والمبدعين في بلاد السودان، أجدني أخط بعض الكلام ، غير النقدي ، في حضرة اسم أدبي ، وشخصية ثقافية وتربوية ، اشتهرت بكتابتها ومقالاتها الرصينة، والتي تتمتع بوفرة الخيال ، وحسن تصوير الحال ، إنها الروائية سارة عبد المنعم.

ويأتي هذا النص الروائي ليفتح أبواب مملكة الخيال ، جديدة ، يكفي فيها الاسم المختار للشخصية الرئيسة «بلقيس « لكي يجعل من التوافق والتعاقد بين الكاتبة والمتلقي أول مبغى النص ، من خلال رمزيته ودلالاته التاريخية في الثقافة العربية السودانية  . 

وانطلاقا من العنوان الذي اختارته الدكتورة سارة عبد المنعم لهذا المتن الروائي الجديد» الملكة وصبي الأفيون « ، نلاحظ المفارقة التي ستفجر بركانا سرديا على كثير من الرقيّ لغة وتخييلا . فالصورة التي تحملها الثقافة الإنسانية عن الملكة،  وكذا عن صبي الأفيون، تعبر عن التناقض الكبير الذي ينخر بنية المجتمعات الإنسانية والعربية ، بين القمة والدرك ، بين كمال التلبية وقساوة الحرمان والضياع … هي أنثى تحمل عاطفة أمومة أو ذات المشاعر الملائكية ، وهو الطفل الذي يمثل نتاج معادَلة بين البراءة وبين الوعي بتجربة الحياة في السودان  …

ولقد جاءت الرواية بستة فصول ، يحمل كل فصل تسعة مشاهد. وهذه الفصول تتساوق مع نمو الشخصية وتطورها الفيزيولوجي والفكري ، اللذين يعكسان الوعي والإدراك ، بله الانخراط في تجربة الحياة العامة للمجتمع. 

  وتأتي رواية د.سارة عبد المنعم في مرحلة عرفت فيها الرواية السودانية تحولا عميقا من حيث الكم ، في بداية الألفية الثالثة ، ما جعل الروائية تنخرط وبعمق في نقل تجربتها التي ساهم فيها عوامل عدة ، أهمها امتهان الإعلام ويسر انتقال المعرفة عبر الوسائط الحديثة ، وإمكانات الطبع ، بالإضافة إلى الانتقال النوعي في رؤية المرأة العربية لذاتها ثم إلى الآخر/الرجل، الذي يمثل احتكار سلطة الكلمة في مجتمع ذكوري …

ولهذه الأسباب جاءت رواية د.سارة عبد المنعم تمثيلا نوعيا للأدب النسائي السوداني ، لكي تعبر عن قلق دفين ، وعن رؤية جمعت بين المعيش اليومي وآفاق المستقبل ، حين جعلت من التعلم الوسيلة الأولى والأساس في النهوض بالمرأة من خلال اختيار شخصيات مثل بلقيس وكمال وغيرهما ، في مجابهة قوية لترسبات ثقافية شكلتها التقاليد والأعراف ، قبل وبعد الحكم العثماني … وبهذا تمتد الرواية لتنسج سرديتها بشكل متنام ، كان لبنية المشاهد والفصول فيها دور في التقاط تلاحق الأبنية السردية الصغرى ضمن بناء كلي يشكله شخصية بلقيس وأدوارها ، مع إتاحة السارد الكلام لشخصياته كي تعبر عن أدوارها ومواقفها بما يسمح به أنماط الحكي المختلفة .

إن الرواية ركبت تاريخ السودان الحافل بقيم يتنازعها الديني والاجتماعي والأعراف، كما يتنازعها الذات مع نفسها أيضا ، مشكلة بذلك حمولة ثقافية، هاجسها ذلك السؤال الأنطولوجي عند المرأة السودانية التي يطاردها خوف الختان « ألن تقبلنا المدرسة دون ختان ؟!». وهو شعور بالدونية ، حاولت الروائية  سارة عبد المنعم ، أن تتلمس له مخرجا ، من خلال فكرة الصراع مع الجسد والموت الذي أودى بأمها قبل أن تتذوق ثديها ، ودون أن تعرف  سبب موتها « لم يكن بوسع براءة بلقيس استيعاب فكرة اختلاف قدرها عن بقية الأطفال. إذ كيف تصير جدتها أمها بينما تموت أمها الصغيرة؟! «          و « لماذا تركني أبي كما تركتني أمي؟ وأين هو الآن؟! « … وهنا يتحول الموت إلى ترميز لانتحار جيل ما بعد الجد والجدة ، بحيث تضيع حلقة جيل بأكمله على المستوى التطور التدريجي للفكر ، وتجعل من جيل الجد علامة على استمرار الماضي في الحاضر رغم ما يربط الجدين من رغبة  خجولة في أن تتعلم بلقيس العلوم الجديدة … وبوعي طفولي تحاول البطلة أن تتحدى مرارة الحاضر وتتمرد على الرجل من خلال اللعب والصراع مع الأطفال ومغامرة  الكشف عن المناطق المظلمة في الذاكرة الشعبية … هو الجيل المعذب في لعبه كما في تعلمه ، والذي بدون شك يستوعبه الشق الثاني من العنوان «صبي الأفيون» كرؤية للمصير غير الواضح …

إن الرواية تحمل هموم مجتمع بأكمله ، في ماضيه وحاضره ومستقبله ، هو موضوع يشكل هاجس النظرة الواقعية لحركية التاريخ الرتيبة ، وعنها بُنيت مجمل الفصول تأسيسا لفكرة الرواية المرتبطة بالحكي . والحكي لا يكون بغير شكل من أشكال الماضي المخزن قسرا في الذاكرة . فنرى الرواية العربية ومنها السودانية تميل في أغلبها  إلى تغليب الواقع على الواقعية في الأدب عموما، لأن منظومة الفكر العربي لم تحقق بعد خلفيتها الفلسفية ، والتي ظلت مرتبطة بموْجِدة الدين والخرافة والتقاليد ، لم يسهم فيها الفعل التربوي بما يكفي ليحقق نقلة نوعية، تكون عنوان التحول والتطور … والروائية سارة عبد المنعم من خلال « الملكة وصبي الأفيون « بالإضافة إلى المد التاريخي فقد جعلت من الانفتاح عنوانا يسوقه الجمال الجسدي ، والتعليمي والتواصلي عبر الرسائل وغيرها . إنه انفتاح كسر استحضار الماضي كبنية تاريخية جاهزة ، بل ظل سؤال البحث عن الكينونة وجها لحقيقة الكتابة عند الروائية ، وهو ما لمسناه أيضا في رواية « فلين : جذور الصفصاف» للروائي جمال الدين علي ، حين يبحث في تاريخ السودان زمن مقاومة الحكم العثماني .

ومن خلال النص الروائي كشكل إبداعي ، وعلامة لسانية كبرى ، نلمس قدرة الروائية على بناء  منجز رافض لكل مظاهر المجتمع السلبية ، وهو ما جعل من النص انتقادا لواقع مرير ، من خلال تحويل كل عنصر إلى علامة دالة على تذمر المرأة العربية ، المناضلة ، تقول شخصية بلقيس : « لست عنيدة، لكنني الملكة، ولا أحد يأمرها « وقولها :  « لا تصدقوا ما يقال …» ، وفي العبارة ما يحيل على مواقف البطلة من إشكالية العار الذي ظل سمة الفكر الديني الذي يميز بين  مؤسسة الزواج كمقدس مقابل المدنس في الجنس ، فتغدو الرواية تلخيصا للثالوث المحرم : الدين والسلطة والجنس . موضوعات تنبسط في الرواية بطرق سردية متنوعة ، كالمقطع الحواري التالي : 

– حدثيني يا جدتي عن أمي. لماذا رفضتم أبي زوجا لها ؟ ما كان عيبه ؟! وكيف تزوجها؟

– ويحك يا مجنونة! أما زلت تشكين بأنك بنت حرام؟

هكذا تحاول الروائية أن تصوغ روايتها من فسيفساء توليد الجراح،  لتؤكد أن فعل الكتابة هو نوع من التماهي مع واقع السودان المثخن بتقاطع الذات بموضوعها ، فيكون الجسد الأنثوي بؤرة التشظي لتأسيس معادل بناء لغوي قوي ، لا يتوقف عند الواقع المادي ، بل يتعداه إلى معنى الفكر والمعرفة . وكان الجسد/ الجمال/ الملكة … مصدرا لتجاذب الذات مع الآخر كذات ثقافية رهينة بالتمزق الوجداني ، والمحاصر بين الحب كمخدر يتجاوز الموانع والمحرمات في عرف ثقافة السودان العربي ،» قالت الملكة، حين هلوسة، أنها تحب صبي الأفيون، لكنه لا يشعر بها، ولم يصارحها بشيء. ترى هل كان ذلك حديث كأس ؟» ، ومع سليم الذي قال : « لا تخافي، فلن أراك، كالجميع، مجرد جسد لا يحتفي أحد لدواخله الأجمل.ضمني.» وبهذا ترى الروائية أن موضوعة الحب أقوى ، وهي باب يتحرر من خلالها الجسد الذي ظل مرهونا بأعراف المجتمع في تحجيمه ، بدعوى عرف أو حديث. 

وستظل الرواية السودانية من خلال تجربة سارة عبد المنعم ، سجينة رؤية المثقف الذي يقاوم الجهل ،باختراق عوالم اجتماعية تحكمها منظومة القيم التقليدية. وهو الصراع الذي جعل من سليم يؤمن بالمستقبل دون الماضي، حين قال لبلقيس: «لا شأن لي بماضيك، سأستحم وأخرج …» ، وفي غمرة الوعي بمؤسسة الزواج ، وما ينتظر صاحب جناية بيع المخدرات، يرفض أن يربطها بإنجاب ، كي لا تكون الخطيئة أعمق من الحب . وبهذا تكون الرواية تصويرا للعنة تطارد الشخوص  موتا أو هربا ، فتتخلص من القيود بمعانقة الحرية التي تمنحها الكتابة التي تستوعب التفاصيل بدل الشعر:  

– ليتنى كنت صاحبة حرف، لكتبتك أجمل قصة حياة.

– احذرى الشعر، إنه يورث الجنون. هذه مهمتى، ولا أظنك بحاجة للمزيد.

– إذن، سأصبح روائية كالطيب صالح وغابرييل ماركيز.

– يا مجنونة ! ستكشفين حياتنا. ألا تخشين الحسد؟

– خوفي من أن يعشقك القراء …

– لا تذهبي بخيالك بعيدا.

إن الروائية سارة عبد المنعم تؤكد بذلك على أن الحرية تنطلق من الجسد إلى الكتابة ، وهو مطلب المرأة العربية التي تم اغتيال أنوثتها، فيكون الإصرار على هذه الحرية كامنا ينتظر السراح ، ولن يكون إلا بالكلام  عبر فعل الكتابة التي تمنح استفزازا مبدئيا في ثنايا الرؤية الانتقادية للطبقات الاجتماعية والوعي الإنساني بحقيقة الوجود ، فجاءت الرواية وليدة فعل داخلي للحوار الذي دار بين بلقيس/ الملكة ، وسليم / صبي الأفيون : 

– اختر لها اسم .

– من ! آه روايتك؟ ما رأيك باسم «الملكة«؟

– وحدها فقط ؟! إنها قصتنا معا.

– إذن سمها باسمينا « الملكة وصبي الأفيون «.

حيث القدر يخبئ مفاجآت ناتجة عن مفارقات، ترى الروائية في علاقاتها إبراز الوجه الخفي للإنسان العربي الذي يصارع في كل اتجاه، وينتهي أمام آلة التسلط إلى الاحتماء بالدين أو العزلة والموت، الأمر الذي يدل على رؤية بين- بين ، عبرت عنه بإعادة موت بلقيس مثل أمها دون التملّي بالمولود، وكأن الروائية تركز على تمكن سلطة القيم الرسمية والثقافية من المجتمع . وأعطت لمفهوم الحب من خلال «زوربا» ذلك الهاجس الذي يسكن الأنثى ، والذي لا يتحقق إلا من خلال المتمرد على الأعراف كسليم وأخيه، أي أن الحب هو قيمة متمردة  تتحقق بالوصل مع أبعاد الذات المكلومة، في الكتابة الإبداعية العربية، التي عبرت عنها الرواية في تناول موضوعة القيم الاجتماعية، مما يعني أن الكاتبة ترج هذه القيم في سردية تبحث عن أجوبة لأسئلة ضربت خيامها في المجتمعات العربية، ومنها مجتمع السودان. 

إن سارة عبد المنعم، روائية استطاعت أن تشكل عالما روائيا، موضوعه الكشف عن سلطة القيم في المجتمع، والمتعلقة بالتناقضات الوجدانية والصراعات القيمية، بل إظهاره بتأكيد الكلام فيه على غرار كبار كتاب الرواية في السودان والوطن العربي.

 

شارك القراءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *