

عبدالسلام محمد عبدالنعيم
• رواية «أبو جنزير» للكاتب الروائي مولانا الحسن محمد سعيد من أشهى الروايات على الإطلاق فيها سرد للتاريخ وصراع مع الاستبداد وتحويل الرواية التاريخية إلى فن حي .
في رواية «أبو جنزير»، لا يكتفي مولانا الحسن محمد سعيد بسرد أحداث حقبة الرئيس جعفر النميري ، بل ينحت من الواقع عملاً فنياً يخترق جدار الزمن. الرواية التي تُشبه لوحة سريالية بغلافها المُعبر عن غموض ميدان «أبو جنزير»، تتحول إلى محكمة تاريخية تُحاكي عهدا استبداديا بقلم قانوني بارع، وضمير أدبي حي.

ملخص الأحداث: رحلة قاض بين المثالية والتراجيديا
تبدأ الحكاية مع محيي الدين زمراوي، القاضي الشاب ذي المبادي الصلبة، الذي يُبتعث إلى لندن لدراسة القانون. هناك يصطدم بواقع اللاجئين السودانيين الهاربين من قبضة النميري، مثل مكولا أكول الجنوبي، الذي يصبح رمزاً لوحدة السودان الممزقة. رغم تحذيرات الأصدقاء، يعود محيي الدين إلى الخرطوم مع زوجته نجوى، ليجد صديقه عبد الرحيم قد انضم لمعسكر السلطة بعد «المصالحة الوطنية» المزعومة.
بينما يرفض محيي الدين مبايعة النميري، يصبح استقلاله جريمة توصله إلى ميدان «أبو جنزير»، للمحاسبة، مشهد يُجسد انتقام السلطة من صوت العدالة. لكن النهاية ليست سوداوية؛ فالمشهد الأخير – حيث يُحمل محيي الدين عاليا كشهيد صوفي – يلخص انتصار الروح على القمع، ويرسم أملا بغد أفضل.
يجسد الراوي «أبو جنزير» بأنه ليس مجرد مكان شهد محاكمات صورية، بل هو رمز لصراع ثلاثي الأبعاد:
تاريخي :كشاهد على «عدالة النميري الناجزة».
روحي: مرتبط بأسطورة الشيخ المدفون فيه.
اجتماعي: حيث تتعايش تفاصيل الحياة اليومية (بائعات الماء، سائقي التاكسي) مع رعب السلطة.
يبرع الكاتب في نسج لغة تجمع بين الفصحى والعامية السودانية، كأنما يريد أن يقول: «هذه الرواية مرآة الشعب». الشخصيات – من الإسلامي عبد الرحيم إلى الشيوعي حسين – تعكس تياراتٍ متصارعة، لكنها تُجسِّد معاً إشكالية الهوية السودانية. حتى الحب العابر بين محيي الدين و»ليلى» يُروى بلغة شعرية تذوب فيها الحدود بين التراجيديا والدهشة.
و رغم جودة التوثيق التاريخي لعهد نميري بطريقة مبهرة إلا أن الرواية تتجاوز الوثيقة إلى الفن عبر:
تعقيد الشخصيات: فالنميري ليس «شريرا مسطحا «، بل طاغيةٌ يحيط به هالة التقديس الكاذب، أشبه بفرعونٍ حديث.
السخرية السوداء : كما في وصف «الاستفتاءات» التي تُختزل بـ «نعم أو لا»، أو تهكم الكاتب على قوانين النظام المصرفي الفاشلة.
الرمزية الصوفية: التي تحوِّل الجلد في الميدان إلى طقس تحرري.
نجح الكاتب في تقديم رؤية محايدة للصراع بين الشمال والجنوب عبر شخصية مكولا، و لكن العلاقة بينه وبين محيي الدين ظلت سطحيةً رغم رمزيتها؟
اجمل ما في الرواية ان مولانا الحسن بخبرته القانونية استطاع ان يقيم محكمة ادبية قاسية و صارمة لنظام نميري وتفكيك آلة القمع، ويوضح حجم الدمار الذي لحق بالقضاء في عهد نميري.
في الختام: روايةٌ «أبو جنزير» عملٌ لا يكتفي بتوثيق الماضي، بل يطرح أسئلةً عن الحاضر: كيف نصنع عدالةً للمجتمع السوداني ؟ وكيف نحمي الإنسان من الظلم ؟ إنها روايةٌ تذكرنا أن التاريخ يُكتب مرتين: مرةً بأقلام المنتصرين، ومرةً بأحلام المقهورين.
رواية مكتملة الأركان و ممتعة و مدهشة و تعابير شيقة و جزلة ..شكراً لمولانا الحسن على هذه الرواية المدهشة.
شارك المقال