رُفَاعَةُ.. يكفِيكُم رَجُلٌ وَاحِدٌ

149
ناجي الجندي

د. ناجي الجندي

كاتب صحفي

• قُتِل المستعصم باللهِ الخليفةُ العباسيُ في بغداد تحت الأقدامِ على يد التتار، ودمر التتار بغداد وذبحوا مليون مسلم أو يزيد، التتار كانوا حانقين على كل ما هو مسلم، وبغداد لم تكن في ذلك الزمان مدينة، بل دولة بها كل مقومات الدولة، فهي لم تكن كالخرطوم وصفاً بل كالسودان تمكناً وإمكاناتٍ.

وحنق الجنجويد على كل ما هو سوداني بدءاً بالبشر وإلى أصغر حجر، وقُتِل الكثيرون تحت أقدامهم. وكنت أقول دوماً عسى ألا يكون مصير البرهان كمصير المستعصم بالله، لكني أظن أن دعوتي ستُدخر لي ليوم القيامة، والله يستر. الجنجويد كذلك اختاروا خيارنا وأعلمنا وأنفع الناس فينا لغيرهم وقتلوهم وهم كُثر، بدءاً بالعلماء والأطباء ودكاترة الجامعات وكبار الضباط، والأدباء وغيرهم.

يحكى أن ابنة هولاكو زعيمِ التتار كانت تطوف في بغداد، فرأت جمعاً من الناس يلتفـون على رجل منهم، فسألت عنه؟ فإذا هو عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما مثل بين يديها سألته: ألستم المؤمنين بالله؟ قال: بلى، قالت: ألا تزعمون أن الله يؤيد بنصره من يشاء؟ قال: بلى. قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟ قال: بلى. قالت: أفلا يعني ذلك أننا أحب إلى الله منكم؟ قال: لا. قالت: لم!؟ قال: ألا تعرفين راعي الغنم؟ قالت: بلى. قال: ألا يكون مع قطيعه بعض الكلاب؟ قالت: بلى. قال: ما يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه، وخرجت عن سلطانه؟ قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى سلطانه. قال: كم تستمر في مطاردة الخراف؟ قالت: ما دامت شاردة. قال: فأنتم أيها التتار كلاب الله في أرضه، وطالما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته فستبقون وراءنا حتى نعود إليه جل وعلا. (أ.هـ). هذا المشهد أظن أن بعده قُتِل ذلك العالم، وأظن أن هذه الحادثة قد تكررت مع رجلٍ فقيرٍ إلى الله اسمه أسعد السر، شيخ من شيوخ المساجد رغم صغر سنه، فمن هو أسعد السر؟

ارتفع صوت الأذان الله أكبر بصوتِ رجلٍ ما زال يرن في آذان أهل مدينة العلم، رغم وفاته مقتولًا بيد الغدر والخيانة، بيدٍ لا تعرف أن القتل حرام، وأن الصلاة حلال، وأن الأذان حلال، يد لا تفرق بين تيسهم في بلدهم وعالِم تشهد له منابر المساجد أو منابر الجامعات، فمنذ أن دخل الجنجويد تتار العصر مدينة رفاعة، وبالضبط منذ أن قتلت الإمام المؤذن أسعد السر، كان يأتيني الرجل كل حين وأنا لم أتشرف بمقابلته من قبل، كان يزور خيالي وأتذكر كيف كان موقفه يوم الحادثة؟ يوم قتله من لا يعرفون قدره، ولكنهم يجهلون كذلك أنه انتقل لعالم أفضل، وأهل أفضل، ودار أفضل، لأن المؤذنين أطولُ الناس أعناقاً يوم القيامة، المتوفى كان يحمل بضع احتياجات أو بضاعة في دراجة هوائية، مات دونها، لم تكن الألف جنيه التي صارع من أجلها أو البضاعة هي موضوع يقصده، لكنه يعلم الدين ومتفقه فيه، يعلم أن من يترك جنيهاً واحداً يمكن أن يترك العرض والأهل والمال والكرامة، يعلم أن الله أمر بالدفاع عن هذه الأشياء وإن كلف ذلك حياته، وإن كنت تعلم أن كثرتهم عليك ستغلبك فواجب عليك أن تدافع عن حقك لا أن تسلمه بيد مذلولة ورأس منكسر، الشيخ أسعد ترجم الدين في نفسه وفي روحه، مات وهو يعلم أنه فعل الصحيح وفعل الحق، ولو كنت مكان الشيخ أسعد لمت ميتته. لسنا أفضل من الشيخ أسعد لكن الله يصطفي من يشاء، ونحسبه شهيداً يتضرع الآن في قبرٍ روضةٍ من رياض الجنة، فمن مثلك يا أسعد!؟

وليعلم أهله ومحبوه أن الشيخ أسعد مات لكنه أحيا سنةً يجب علينا أن نتمسك بها، فهو الشجاع المقدام العالِم الأريب الفقيه، وكمثلك تعقر الأرحام، رحم الله الشيخ أسعد وتقبله القبول الحسن.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *