التعليم في السودان بين الانهيار والنهضة: من مأساة الحرب إلى مشروع وطني للتجديد

155
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

 • يُعد التعليم روح الأمة ومستقبلها، ووسيلتها للنهوض من واقع الأزمات إلى آفاق التنمية والتغيير. غير أن التعليم في السودان لطالما كان مرآة تعكس أوجاع البلاد، من تهميش مزمن وانقلابات متكررة إلى الحروب الطويلة التي أجهزت على بنيته وهياكله. واليوم، وبعد مرور عامين على اندلاع الحرب المدمرة في أبريل 2023، يقف التعليم السوداني على حافة الانهيار الشامل، وسط نزوح الملايين وتدمير المدارس والجامعات، وغياب مؤسسات الدولة عن المشهد التربوي بالكامل.

لقد عايش الشعب السوداني مراحل متعاقبة من محاولات النهوض، وكان التعليم دومًا نقطة الانطلاق في كل تجربة بناء. من أزمنة الكُتاب والمسيد، مرورًا بالمدرسة الريفية، وحتى الجامعات التي خرّجت قادة الفكر والسياسة، ظل التعليم حارسًا للهوية ومخزنًا للأمل. واليوم، ونحن في لحظة انهيار مؤسساتي شامل، تُطرح أسئلة جوهرية: هل نستطيع تخيّل مستقبل مختلف رغم هذا الدمار؟ وهل يمكن تحويل معاناة التلاميذ والطلاب النازحين إلى شرارة لنهضة جديدة أكثر عدلًا وإنصافًا؟

إن إعادة بناء التعليم في السودان ليست مجرد واجب إنساني، بل ضرورة استراتيجية إن أُحسن استثمارها قد تصبح منطلقًا لإعادة بناء الدولة ذاتها، بمنهج جديد يعترف بتنوع السودان ويؤمن بالشراكة والمواطنة المتساوية. وبين ركام الواقع، تلوح أمامنا فرص فريدة، تتطلب وعيًا جماعيًا، واستثمارًا في الإنسان، وشراكات جديدة داخل السودان وخارجه.

أولاً: السياق التاريخي

منذ عهد الحكم الثنائي البريطاني-المصري، وُضع التعليم في السودان لخدمة نخبة صغيرة، وبأهداف إدارية لا تنموية. وعقب الاستقلال عام 1956، ورغم الطموحات الشعبية الكبيرة، سرعان ما سيطرت الاعتبارات السياسية والأيديولوجية على المناهج والسياسات، خاصة خلال فترة الأسلمة والتعريب في الثمانينات والتسعينات، مما أدى إلى إقصاء ثقافات وهويات مجتمعية كاملة، خاصة في مناطق الهامش.

تفكك السودان عام 2011 بفصل جنوبه فاقم من تعقيد المشهد التعليمي، إذ خسر البلد جزءاً من بنيته الأكاديمية ومصادر تمويله. وبعد ثورة ديسمبر 2018، حاولت الحكومة الانتقالية إطلاق إصلاحات تعليمية، لكن الانقلاب العسكري في أكتوبر2021 والحرب التي تلته سرعان ما أجهضا هذه الجهود.

ثانياً: تحديات الواقع الحالي

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبح التعليم هدفاً مباشراً للدمار. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 10,000 مدرسة قد تم تدميرها أو إغلاقها. الجامعات الكبرى، مثل جامعة الخرطوم، تم تفكيكها ونقلها قسراً إلى معسكرات النزوح أو دول الجوار.

المعلمون والتلاميذ أصبحوا نازحين. كثير من الأساتذة غادروا إلى الخارج بحثاً عن الأمان أو الفرص، مما عمّق النقص المزمن في الكوادر المؤهلة. أما الطلاب، خاصة الفتيات وذوي الإعاقة، فهم الأكثر تضرراً، حيث فقدوا فرص التعليم والاستقرار.

ويُضاف إلى ذلك الهوة الرقمية الكبيرة. ففي وقت أصبح فيه التعليم عن بُعد ملاذاً للعالم في أوقات الأزمات، يُحرم ملايين الطلاب في السودان من هذا الخيار بسبب ضعف الإنترنت، انقطاع الكهرباء، وغياب الأجهزة المناسبة.

أما على المستوى السياسي، فهناك فراغ مؤسسي تام. لا توجد جهة مسؤولة عن تنسيق المناهج أو تنظيم الامتحانات أو الاعتراف بالمؤهلات، ما ينذر بكارثة تعليمية طويلة المدى.

ثالثاً: الفرص المتاحة وسط الأزمة

رغم هذا المشهد القاتم، ظهرت مبادرات ملهمة ومقاومات مجتمعية تدفع بالأمل نحو المستقبل:

1. مراكز تعليمية مجتمعية نشأت في معسكرات النزوح، حيث يتطوع شباب وشابات لتعليم الأطفال في الخيام أو تحت الأشجار، باستخدام كتب متبرع بها أو مواد مكتوبة بخط اليد.

2. جهود الجاليات السودانية في المهجر لعبت دوراً محورياً. فقد أطلق أكاديميون ومهنيون في كندا، بريطانيا، الخليج، والولايات المتحدة مبادرات تعليمية رقمية، ودورات تدريبية مجانية، خاصة لطلاب الجامعات الذين توقفت دراستهم.

3. بدأت منصات التعليم المفتوح والمجاني (OER) تكتسب زخماً، خصوصاً باللغة العربية. كما ظهرت تطبيقات تعليمية تعمل دون اتصال دائم بالإنترنت، ما يجعلها مناسبة للمناطق الريفية والمهمشة.

4. بدأت منظمات دولية مثل اليونسكو، وشبكات أكاديمية أفريقية، في تخصيص دعم فني وتمويلي لإعادة تأهيل التعليم السوداني، بما في ذلك توفير فرص دراسية انتقالية للطلاب في دول مجاورة.

رابعاً: تعبئة الطاقات السودانية في المهجر

من أهم الفرص غير المستثمرة بشكل كافٍ هي خبرات وطاقات أساتذة الجامعات السودانيين المقيمين في دول المهجر. فهذه الكوادر العلمية تمثل ثروة وطنية هائلة يمكن أن تسهم مباشرة في إعادة بناء النظام التعليمي.

كيف يمكن تفعيل هذا الدور؟

• إنشاء شبكة تنسيقية دولية تضم الأكاديميين السودانيين في الخارج وتُعنى بإسناد التعليم الوطني، عبر التدريس عن بعد، والمشاركة في تطوير المناهج، والإشراف المشترك على الأبحاث.

• إطلاق برامج “العودة العلمية المؤقتة”، وهي مبادرات تتيح للأكاديميين في المهجر تقديم دورات مركزة أو ورش عمل افتراضية للجامعات والمؤسسات السودانية (حتى وإن كانت تعمل في المنفى أو عبر الإنترنت).

• بناء منصات تعليم رقمية مدعومة من السودانيين في المهجر، توفر محتوى أكاديمي باللغة العربية في مجالات نادرة، مثل الذكاء الاصطناعي، علم البيانات، الطب الدقيق، والدراسات البيئية.

• نقل المعرفة في السياسات التعليمية: يمكن الاستفادة من خبرات أساتذة المهجر في تصميم السياسات التعليمية الحديثة المبنية على الحوكمة الرشيدة، والجودة، والتقييم.

• تقديم الدعم النفسي والتربوي عبر مجموعات إرشاد مهني وتوجيهي للطلاب السودانيين النازحين أو اللاجئين الراغبين في استكمال تعليمهم العالي.

إن تنسيق هذه الجهود يتطلب إنشاء منصة وطنية أو مبادرة مدنية مستقلة تعمل على الربط بين الداخل والمهجر، وتحويل الإسهامات الفردية إلى جهد مؤسسي مستدام.

خامساً: أولويات استراتيجية لإعادة البناء

لكي تتحول هذه المبادرات إلى إصلاح دائم، نحتاج إلى رؤية شاملة تتبناها الدولة والمجتمع معاً. فيما يلي أبرز المحاور المقترحة:

1. العدالة والشمولية

ضمان التعليم للجميع، خاصة الفتيات، والأطفال النازحين، وذوي الاحتياجات الخاصة.

2. النماذج الهجينة للتعليم

الجمع بين التعليم الحضوري، المطبوع، والرقمي.

3. دعم وتدريب المعلمين

تدريب طارئ، دعم نفسي، وبرامج لتحفيز المعلمين للبقاء في المناطق النائية.

4. رؤية وطنية للتعليم

وضع خطة انتقالية طويلة المدى تشمل كل مستويات التعليم، وتستند إلى التعدد الثقافي واللغوي في السودان.

5. توظيف الذكاء الاصطناعي والبيانات

تحسين جودة التعليم عبر أدوات ذكية لرصد التحديات وتوجيه السياسات.

إن التعليم في السودان ليس ترفًا مؤجلًا أو مطلبًا ثانويًا، بل هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة الوطن نفسها. فبغير تعليم عادل، شامل، ومتين، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية، ولا عن تنمية، ولا حتى عن سلام دائم. والتاريخ يُعلّمنا أن المجتمعات التي تُهمل تعليمها، تحكم على أجيالها القادمة بالهامشية والضياع.

ورغم أن الحرب دمّرت المدارس، ومزّقت الأسر، وشردت آلاف الطلاب، فإن إرادة الحياة أقوى من الحرب. فقد أبدع الشباب السوداني، داخل الوطن وخارجه، في خلق مساحات بديلة للتعليم، بما فيها الفصول المتنقلة، والدورات الافتراضية، والمبادرات المجتمعية. كما أن الأكاديميين في المهجر أثبتوا أنهم لا يزالون جزءًا أصيلًا من هذا المشروع الوطني، عبر مشاركاتهم المعرفية والتدريبية.

إننا، إذ نكتب عن التعليم في السودان اليوم، لا نرثي أطلالًا، بل نضع لبنات رؤية جديدة. رؤية تقوم على:

• العدالة في الوصول إلى التعليم لكل طفل سوداني.

• الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي في المناهج.

• بناء جسور معرفية بين الداخل والمهاجر.

• تحويل الجامعات من مراكز تلقين إلى منصات للتفكير الحر والإبداع.

وهذا لا يتحقق إلا بجهد جماعي تشاركي، تُسهم فيه الحكومة الانتقالية القادمة، والسلطات المحلية، والمجتمع المدني، والشتات السوداني، والمؤسسات الإقليمية والدولية.

ختامًا، إذا كانت البنادق قد أَسْقَطت السقوف، فإن أقلام المعلمين والعقول الشابة قادرة على رفعها من جديد. التعليم ليس فقط رافعة لبناء السودان، بل هو الضامن الأهم لأن لا تسقط البلاد مرة أخرى في هاوية الانقسام والحرب. فليكن التعليم، لا الحرب، هو عنوان هذه المرحلة الفارقة من تاريخنا.

رغم أن الحرب دمّرت الكثير، إلا أن التعليم يبقى أقوى أدوات المقاومة وبناء الدولة. إنه الوسيلة التي يمكن من خلالها رأب الصدع، وتمكين الأجيال، وتشكيل وعي جديد يعيد للسودان مكانته وهويته.

إن كانت هذه الحرب معركة من أجل روح السودان، فإن التعليم هو السلاح الأنجع في هذه المعركة. علينا أن نحميه، نطوره، ونبني عليه السودان الجديد الذي نحلم به جميعاً.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *