انتحار الشعراء.. مشاهد خانقة تتجول بين فصول شفافة (3-3) 

236
shaibon
Picture of تحقيق: نبوية سرالختم

تحقيق: نبوية سرالختم

• حين يعجز العالم عن إحتضان ارواح شفافة مثل أرواح الشعراء وتخفيف آلامهم الناتجة عن شعورهم بقبح الواقع وظلمه تتكشف نصوصهم عن تجارب مأساوية تحمل إشارات حارقة نحو السبيل إلى الخلاص

فالكتابة في لحظة ما لا تصلح لتكون مسكن لآلام الروح والعذابات والجراح أحياناً يكون الإنسحاب من هذا الواقع المظلم ليس ضعفاً بل إختياراً شجاعا من هنا يكون (الانتحارً) ليس نزوة عابرة او لحظة يأس طارئة بل حصيلة وعي بواقع مرير يشوبه انين طويل ومشاهد خانقة تتجول بين فصول دواوينهم الشفافة لتجعل من الانتحار خلاص مشروع يحمل شهادة دامغة على مأساة الانسان في عالم يطرد أنبل قاطنيه.

تناولت في الحلقتين الأولى والثانية تحربة كل من الراحل محمد عبد الرحمن شسيبون والراحل عبد الرحيم ابو ذكري واشرت إلى كيف توحدت لغتهما في التعبير عن الأزمات التي عايشوها وكيف تحطمت احلامهما على حافة الموت رغم ان لكل منهما رؤيته الفلسفية حوله ثم اجريت مقارنة بينهما والراحل عبد الله شابو واشرت إلي انه رغم انه سبقهما في المعاناة في ظل ظروف اجتماعية وسياسية معقدة الا انه كان يحمل تجربة الشعر المكافح والذي حاول من خلال تجربته الشعرية هذه ان يعطي تصور جديد للتصالح والتعايش مع  المعاناة لهذا نجده قد يتطرق إلى شعور بالانطفاء أو الحزن الوجودي العميق، لكنه لا يُجسد هذه المشاعر في صورة الانتحار كحل نهائي .

في هذه الحلقة والتي نختم بها سلسلة التحقيق سنتلمس في تحليل عابر شعراء سودانيين آخرين وثقت تجاربهم الشعرية وما توصلوا إليه في إطار المشاعر المتشابكة مع نزعات الانتحار او الخلاص النهائي من الحياة مما فرض تساؤلات مشروعة هل البيئة الاجتماعية والسياسية السودانية محفزة لوجود مثل هذه الظاهرة ظاهرة الانتحار وسط الشعراء وهل هي منتشرة مقارنة بإنتشارها على مستوى العالم .

يقول الراحل عبد الله شابو أن الانتحار ليس وقفاً على الشعراء ولكنهم حد قوله أكثر الناس حساسية بحيث يكون إنتحارهم مدعاة للحزن الشديد وعن الأسباب يقول عنها أنها  كثيرة جداً لكنها في الغالب تكون إجتماعية ونفسية وفي أصلها تنشأ من التناقض بين واقع الشاعر وطموحاته فالشاعر لحساسيته يتصور أشياء يصعب بلوغها ويواصل شابو : هذا التناقض بين حياته ومايأمل فيه والواقع يدفعه للكآبة الشديدة ويواصل : معروف في علم النفس أن الكآبة تعد من الأشياء التي تدفع إلي الإنتحار وعليه فإن الشاعر كأي إنسان موجود في زمان ومكان ما إذا إنسجم وجدانياً مع هذا الزمان والمكان كانت النتيجة إيجابية أما إذا نشأ صراع بين واقعه وآماله في هذا المكان والزمان كانت النتيجة الحتمية في كثير من الاحيان هي الإنتحار.

ويمضي شابو إلى وصف مسألة إنتحار الشعراء بأنها مسألة معقدة جداً تتداخل فيها المسببات بإعتبار أن للشاعر عالم مختلف يزينه بحساسية وطموح خيالي ووفق هذا العالم يقرأ الواقع وجدانياً ( بحسه لابعقله ) ويواصل : الشعر تفكير وجداني والفلسفة والعقلانية تفكير وجداني ثاني وبما أن الشعر تركيز وتلخيص للتجربة الإنسانية يكون أكثر إلتصاقاً بالناس فإن رفض هؤلاء الناس أو بعضهم لتوجه الشاعر الكامل للحياة ( رفضهم شعره ) أو لم يجد القنوات التي يفرغ فيها ذاته يمكن أن يموت (كمداً ) وهو صاحب القرار في ذلك.

ويتفق في هذه النقطة مع الراحل عبد الله شابو الراحل الناقد عبد القدوس الخاتم فيقول : ( المبدع في بلدنا مهمش مضطهد وقد يواجه بالموت البطئ او بالغيبوبة والإنسحاب من الحياة وربما الإنتحارخاصة إذا ادركته حرفة الادب وكان الشاعر خليل مطران يقول : « مارأينا شاعر على جلده قميص « ومن الطرائف ان احد الدوقات زار شاعراً في بيته وكان الأخير مريضاً أو ربما على فراش الموت وطمأنه بانه قرر إقامه تمثال له فاجابه الشاعر بصوت واهن : سيدي لومنحتوني ثمن التمثال لأتعالج به لكان افضل )

مع ماسبق من إفادات يمكن القول ان الشعر السوداني غني بتجارب شعراء يعبرون عن الاغتراب الداخلي، الألم الوجودي، والظلم الاجتماعي، مما يضعهم في دائرة المشاعر المتشابكة مع نزعات الانتحار أو الخلاص النهائي من الحياة. هؤلاء الشعراء لا يسعون بالضرورة للموت، لكن شعرهم ينبئ عن شعور بالاحتقار للواقع وبحثٍ مضني عن مخرج، يظل الأمل فيه بعيدًا أو غير قابل للتحقيق.

ورغم ان  تاريخ الشعر السوداني الحديث، لا توجد حالات انتحار كثيرة وموثقة ومشهورة لشعراء سودانيين لكن هذا لا يعني أن اغلب الشعراء السودانيين لم يمروا بظروف قاسية أو لحظات نفسية مظلمة. بالعكس، كثير من الشعراء عانوا من الاكتئاب، الإحباط السياسي، أو الاغتراب الداخلي، لكن نهاياتهم لم تكن في الغالب بالانتحار العلني المعروف ويرجع ذلك إلى عدة اسباب منها الوصمة الاجتماعية والدينية للمنتحر إذ تجعل التفكير فيه او الحديث عنه غير مقبول وفوق هذا وذاك يتحلى السودانيون بالصبر الاجتماعي حتى في اقسى الظروف وهم يستمدون ذلك من النزعة الصوفية والتي تعزز الصبر على الابتلاء كما ان النظام الاجتماعي الذي يقوم على العائلة الممتدة يخفف من الضغوط الاجتماعية من خلال التضامن والتواصل العائلي الوثيق فضلاً عن تشارك المعاناة ولكن هذا لا ينفي وجود حالات لم تنتشلها هذه الاشياء من معاناتها العميقة والتي قد تجعل هناك حالات انتحار مخفية لم تجد التوثيق الكافي .

فالشاعر محمد الفاتح الجزولي كتب عن واقعة إنتحاره الكاتب محي الدين محمد في صحيفة الوطن مقال تحت عنوان «شاعر الدفوفة» قائلاً : « هل مات بظلم الناس الذين إستجار بهم ولم يجيروه أم قتلته قبيلة الجن التي سكنت عقله وقلبه أم أن العصف الذهني في أعماقه كان أقوى منه فعصف به أم ان الرجل مات ولكل أجل كتاب». كانت هذه التساؤلات منساقة بعد إيراد الكاتب مقطع للشاعر قال عنه أنه خانه وفضح عذاباته ومعاناته وهو : «عدت بين يدي تهويماً وحيرة .. عدت وا لهفي على قلب تشتت في بيوت الناس يستجدي مجيره .. ظلت الآلام تأبى أن تجيره .. كانت الآلام في صدري خطيرة « وهناك نموذج آخر يعد من الحالات القليلة التي تم توثيقها في رحلة معاناة الشاعر السوداني حيث انهى حياته بالانتحار وهو احمد الطيب عبد الحفيظ والذي كان معروفاً بثقافته الواسعة وشغفه بالأدب العالمي وقد عانى من صراعات فكرية ونفسية عميقة سجلت عنه بعض الأقوال والنصوص الصغيرة منها قوله : «الحياة لعبة خاسرة .. يولد الإنسان ليهزم… الموت ليس نهاية، بل راحة» هذا النص يعبر عن رؤية سوداوية عميقة لفكرة الوجود والذي في نظره لا يعدو ان يكون مجرد خيبات متكررة اما فكرة ان الموت «راحة» تشير إلى أنه لا ينتظر أملاً ولا ينتظر خلاصاً دنيوياً وهذه الرؤية تأثرت إلى حد ما بكتابات شعراء غربيين تأثر بهم تتقارب كتاباتهم مع فلسفات العدمية والوجودية التي تعتبر مادة رئيسية في كتابات الشعراء السودانيين المنتحرين الذين مزجوا الألم بالجمال وفاضت اعمالهم بإحساس العدم واللاجدوى وان الحياة ليست الا مجرد مشاهد في مسرح العبث .

هناك نموذج ثالث لم ينتحر ولكن توفي في ظروف مأساوية تعكس الإهمال الذي يواجهه المبدعين حيث وجد متجمداً من البرد والجوع في شوارع القاهرة وهذا النموج هو الشاعر والفنان التشكيلي محمد بهنسي والذي لم يحظى بالاهتمام والتقدير وقد واجه الرفض من مجتمع الفن الرسمي رغم موهبته الفذة وعاش تجربة من التشرد والغربة العنيفة فمن بعض كلماته المسجلة شفاهة «العالم…

جدارٌ عالٍ لا نبلغ قمته… وحدهم الساقطون… يرون السماء.» وتسجل هذه المقولة الأدبية رؤية قاسية للعالم فكاتبها فقد اي ايمان  بإمكانية الانتصار او حتى النجاة وهي حالة من الاحباط واليأس الكامل والاحتراق الداخلي بسبب الظلم الاجتماعي والتهميش إذ ان كل من يبذله من جهد يذهب جفاءً امام ريح قاسية لا ترحم «برد… جوع… وجدار لا يد تمتد، لا نافذة تنفتح سأرسم ظلّي فوق الإسفلت، وأترك للريح الباقي.» كل مفرداته ترتكز على الافتقار الكامل: لا دفء، لا طعام، لا تواصل إنساني فكرة «رسم الظل» ثم تركه للريح تدل على الإحساس بأن الوجود ذاته أصبح عبثيًا، لا يستحق الاحتفاظ به لهذا فإن موته المجازي كان يحدث كل يوم قبل أن يتجسد فعليًا بموته متجمدًا.

مما سبق نجد ان الشعراء الثلاث بينهم رابط مشترك وهو الشعور العميق بالاغتراب عن الذات والمجتمع وتكررت معهم رموز السابقين مثل : الليل والغربة والسقوط والصمت والريح والموت وعكست فلسفتهم مزيج من الرومانسية السوداوية والتمرد العاجز فهؤلاء الشعراء لم يكتبوا عن الانتحار بوصفه «فعلًا» فقط، بل كتبوا عن الموت كحالة شعورية مزمنة، بدأت في النصوص قبل أن تتحقق في الواقع.

يقول الخبير في علم النفس دكتور نصرالدين محمد إدريس : الشعراء هم فئة من الناس تدخل فيما يسمى بالمبدعين ومفهوم الإبداع في علم النفس يعنى به قدرات محددة تبرز في الشخص سواء كانت فنية أو غيره وبالتالي فالشعراء يعبرون عن نوع من الإبداع في شكل شعر وملكة الشعر حسب النظريات التي تناولت قضاياه تقول أنها تجربة إنسانية فريدة ومعاناة في شكل قوالب شعرية وبتفكيكها فهي تتناول جوانب الفرح وكثير منها جوانب الحزن والمعاناة

ويضيف : من هذا المدخل نرجع إلى مفهوم الإنتحار في علم النفس والذي يشير إلى أن الشخص المعني ( المنتحر ) قد وصل إلى مرحلة نفسية سئية نتيجة لمجموعة من الإحباطات مما دعاه ليقرر أن يضع حداً لحياته وبالتالي فإذا كانت هنالك ظاهرة لإنتحار الشعراء فيعني ذلك ان الشاعر يعاني من مشكلات تأصلت داخل بناءه النفسي عززها نوعية التنشئة الإجتماعية التى تأثر بها بجانب البيئة المحيطة كل ذلك يجعل بعضهم يعيش معاناة معينة لايستطيعون تحملها مما يؤدي بهم إلى الإنتحار ويرى ان هذه المعاناة تتلخص في جزأين هما انها سبب في إبداعه وإنتاجه للشعر والآخر انها سبب في إنهاء حياته ويستبعد ادريس ان يكون الفعل الشعري ضرباً من ضروب التفريغ المعتمد في العلاج النفسي والذي هو يعرف بمفهوم التفريغ الإنفعالي كواحد من ادوات العلاج لدى مدرسة التحليل النفسي معللاً ذلك بأن هذا التقنية لها ادواتها وخطواتها ومقاصدها وكذلك لها طريقة تنفيذها وبالتالي فإن النظر إلى الشعر من نفس الزاوية غير صحيح فالشعر من حيث كونه تفريغ هو كذلك لكنه لايأخذ بمتطلبات التفريغ الإنفعالي في مدرسة التحليل النفسي لعدم وجود نظام متبع : بمعنى أنه في حلقات التفريغ الإنفعالي هنالك أخصائي نفسي وطبيب ومريض يبدأ الطبيب بنقاش الموضوعات كما يوجه الأشياء في صالح المريض لكن الشاعر يعبر عن أشياءه كما يراها هو قد تأخذ المسار الصحيح أو الخطأ وبالتالي يمكن لقصيدة يقولها الشاعر ان تؤسس لمشكلة أخرى أكثر سوءا.

خاتمة 

إنتحار الشعراء ظاهرة عالمية يكتنفها الكثير من الغموض وتظل من بعدهم سراً طوياً يصعب على الكثيرين فهم مغزاه أو تأويل مسبباته رغم محاولاتهم الجدية في فك طلاسمه بالتحليل تارة وبالتأويل تارة اخرى .

وبما يعرف عن الشعراء من رهافة الحس والرومانسية الزائدة والغرق في الخيالات لابد وأن يلمح المقربون إليهم خيباتهم العديدة في الحياة سواء كانت خيبات شخصية أو قومية – وطنية كما تلمح عليهم جراء ذلك النزوع نحو الوحدة والتوتر والتألم لأسباب شبه مجهولة .

ومع ذلك نجد أن أغلب الشعراء (المنتحرين) على مستوى العالم قبل إقدامهم على الخطوة تفوح من كتاباتهم رائحة الموت فالأديب والشاعر الأردني تيسير السبول قبل إنتحاره كتب : ( انا يا صديقي اسير مع الوهم …ادري ايمم نحو تخوم النهاية .. نبيا غريب الملامح امضي الي غير غاية … سأسقط لابد ، يملأ جوفي الظلام … نبيا قتيلا وما فاه بعد بآية ) قال عنه الكاتب والمحلل أسامة فوزي : ( قد خلصت في بحثي عن تيسير السبول أنه انتحر لاسباب فلسفية فقد تصوف في ايامه الاخيرة وكان دائم السؤال عن الحياة بعد الموت كان يري ان هناك حياة اخري لا يعرفها احد .. اقتنع بان الحرية التي هي جزء من الحقيقة طريق لا يمكن ادراكه الا بمواجهة الموت ) وربما سار على طريقته من قبل ومن بعد الشاعر خليل حاوي حين قال : (فلأمت غير شهيد/ مفصحاً عن غصّة الإفصاح/ في قطع الوريد…) وكذلك الأرجنتينية مارتا لينش من قبل أن تكتب : (ان الموت وحده يتيح لنا ان نعيش مرة اخري ، فلا احدا لا يعرف ما هو الموت ، انه شكل اخر من الحياة وانا متاكدة من ذلك  ) وقال زوجها : (ان مارتا سمحت لنفسها ان تقول للموت : لقد تعادلنا في المباراة فقد نلتني ولكنني انا التي اخترت التوقيت ) وأخيراً الإيطالي الشهير تشيزاره بامنيزه ترك رسالة لصديقته يقول فيها : ( كلما فكرت في الانتحار بدا لي انه أمر هين ، حتى النساء الضعيفات يملكن القدرة عليه».

 

شارك التحقيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *