• قرأت قديماً في أحد كُتُب المطالعة أن رساماً أراد رسم لوحةٍ يجسُّد فيها أجمل ما في الحياة، فخرج من بيته مطلقاً بصره في الطبيعة يرقب الأنهار، ويمعن النظر في الأشجار، ويلامس الأزهارظ باحثاً عن أجمل ما في الحياة. وفي طريقه أبصر شيخاً ورعاً، فسأله: ما أجمل ما في الحياة؟ أجابه الشيخ: الإيمان. والشيخ محقٌّ في ذلك، ولكن الرسام لا يقدر على رسم الإيمان، فهو يريد شيئاً مادياً ملموساً، فأكمل طريقه يبحث، فالتقى بزوجين حديثي الزواج، فسألهما ما أجمل ما في الحياة؟ أجابا بلا تردد: الحب، وهي إجابة عاطفية رهينة اللحظة، إلى جانب أن الحب أيضاً شيءٌ معنوي غير ملموس. فغادرهما إلى أن رأى جندياً عائداً من الحرب، فسأله: ما أجمل ما في الحياة؟ قال: السلام. وهو كذلك شيء غير ملموس. عاد الرسام أدراجه يائساً، وفي طريق عودته اشترى طعاماً لصغاره، وفور وصوله إلى بيته استقبلته زَوْجُه، فأبصر الحب في نظراتها؛ واحتضنه أطفاله وكلهم إيمانٌ بأنَّ والدهم عاد بما يسعدهم؛ وأحس بالسلام في أرجاء منزله، فقرر رسم لوحته، وسمَّاها البيت.
إن امتلاك بيتٍ ومأوى هو خير تمثيل مادي للاستقرار؛ سواء كان ذلك البيت قصراً منيفاً أم كان بيت مَدر، أو كان بيتاً من وبر، فهو المسكن الذي تسكن فيه، وتسكن إليه، وتستأنس به، وتكون فيه السكينة، وببقائه تطمئن النفس، وبزواله تضطرب وتتزعزع. وأعتقد أن أعظم قيمة فقدناها جميعاً جراء هذه الحرب هي الاستقرار، الذي كان يتجلى في البيت والمأوى الثابت، وجُل الشعب السوداني في الوقت الراهن يعاني من التهجير والتشريد ومغادرة الديار كراهةً، وصاروا ما بين نازح ولاجئ، وكثيرٌ منهم لا يجد حتى حائطاً يأويه، فيفترش الأرض، ويلتحف السماء.
إنك إذا غادرت دارك بلا اختيار منك، غادرتك السعادة، ورافقك الشقاء حتى تعود إليه، يقول أهلنا في أمثالهم: (تمرق من بيتك حزين تلقى الفرح عند مين؟!).
والبيت ليس مجرد جدران وأسقف؛ بل هو مَرْبَعٌ للراحة والسُكْنى؛ لذلك حتى من دُمِّر بيته في هذه الحرب ولم يبقَ منه شيء، تجده يشده الحنين إلى الأرض، وما يعانيه أغلب السودانيين الآن من مشاعر مضطربة وقلق، ما هي إلا تبعاتٌ لهذا التهجير القسري، الذي فرضه عليهم أجناد المخربين، إذ لم يكتفوا بإعلان التمرد وإثارة البلبلة، بل اقتحموا منازل المدنيين، وأخرجوهم منها، أو اضطروهم للخروج منها بأفعالهم والفظائع المرتكبة من قِبلهم من عذاب وتنكيل وانتهاك للحرمات، وكان هذا أعظم مساوئ هذه الحرب، وأَبْيِن آثارها، ومحوراً للحديث عنها.
فقدان البيت هو فقدان للسلام والأمن والاستقرار، وذلك ينطبق على البيت الصغير للفرد، والبيت الكبير الذي يأوي الجميع؛ ألا وهو الوطن، وقد علمنا قيمتهما حينما جرَّب بعضنا مرارة الغُربة، وجرَّب أكثرنا قسوة النوم في العراء.
البيت هو أكثر من مجرد مأوى، إنه رمز للأمان والاستقرار الذي نفتقده اليوم. الحرب أخذت منا أكثر من المنازل، أخذت الشعور بالانتماء والسلام الداخلي. أتساءل كيف يمكننا استعادة هذا الاستقرار بعد كل هذا الدمار؟ هل يمكن للبيت أن يعود كما كان، أم أننا بحاجة إلى إعادة تعريف مفهومه؟ أعتقد أن البيت ليس فقط مكاناً مادياً، بل هو أيضاً ذكريات وحياة مشتركة. كيف يمكننا بناء بيت جديد يحمل في طياته الأمل والسلام؟ هل يمكن أن نبدأ من جديد، أم أن الجروح عميقة جداً؟
البيت هو أكثر من مجرد مأوى، إنه رمز للأمان والاستقرار الذي نفتقده اليوم. الحرب أخذت منا أكثر من المنازل، أخذت الشعور بالانتماء والسلام الداخلي. أتساءل كيف يمكننا استعادة هذا الاستقرار بعد كل هذا الدمار؟ هل يمكن للبيت أن يعود كما كان، أم أننا بحاجة إلى إعادة تعريف مفهومه؟ أعتقد أن البيت ليس فقط مكاناً مادياً، بل هو أيضاً ذكريات وحياة مشتركة. كيف يمكننا بناء بيت جديد يحمل في طياته الأمل والسلام؟ هل يمكن أن نبدأ من جديد، أم أن الجروح عميقة جداً؟