حين غنّت الطفولة عن الغياب ففضحت الغُبن 

214
محمداني2

هيثم محمداني

كاتب صحفي

• في صباح كل جمعة من بداية السبعينات، كان الأطفال السودانيون على موعدٍ أسبوعيٍ مع ضوءٍ صغير في زاوية الشاشة، لكنه كبير في أثره: برنامج «جنة الأطفال»، الذي كان يُبث بالأبيض والأسود من تلفزيون السودان في عام 1971، وتحوّل إلى مدرسة وطنية، تبني بالعاطفة والفن وعي الأجيال الناشئة.

ومن بين كنوز هذا البرنامج الخالد، خرج إلى الدنيا مونولوج «يا ربي متين أشوف الخرطوم؟»، بصوت الطفلة منى الخير، وكلمات الشاعر الراحل الشيخ عمر الضو، في عمل فني متكامل من إخراج الأستاذ عمر البشير محمد، وبحركة موسيقية وإخراج فني من الفنان سيف الدولة خوجلي.

• قالوا لي في الخرطوم جنينة البلدية

وحدثوني وقالوا الفسحة بالعصرية

وقالوا لي كان شفتي البت تسوق عربية…

كلماتٌ ناعمة، لكنها تخبئ بين طيّاتها أسئلة كبيرة: لصراع الهامش من والمركز . 

لماذا يبدو الريف مكانًا نغادره لا نختاره؟ ولماذا تتجمع أحلام البسطاء كلها في الخرطوم وحدها؟

لقد استخدم الشاعر صوت الطفلة ليُوصل رسالة الكبار: أن التنمية غير العادلة تُحوّل الوطن إلى حلمٍ من طرفٍ واحد.

كان من المفترض أن تُبنى البلاد كلها، لا أن تُضاء مدينة وتُترك أخرى في الظلام.

كان يجب أن تتساوى القرى والمدن، في المدارس، والمستشفيات، وفي الحدائق والمكتبات… وفي «الفسحة بالعصرية».

وكما يحمل النشيد حنينًا للخرطوم، فهو يعود بنا أيضًا إلى تلك الحقبة التي كانت فيها العاصمة درةً تتمنى العواصم الأخرى أن تحذو حذوها؛ وكانت مكانة الموظف العامة مرموقة، إذ كان للوظيفة الحكومية اعتبار اجتماعي رفيع.

ويحكي النشيد عن زمنٍ كانت فيه إدارة المالية الوطنية تعتمد على الزراعة، وكانت المرأة الريفية شريكًا حقيقيًا في الناتج القومي، تزرع وتحصد وتُسهم في بناء الاقتصاد من قلب الحقول.

كما كانت الجامعات السودانية منارات علمية يقصدها الطلاب من كل أنحاء أفريقيا والعالم العربي، وشكّل التعليم آنذاك ركيزةً أساسيةً لمكانة السودان الدولية.

واليوم، بعد أن مرّت البلاد بسنواتٍ من النزاع والحرب، تعود إلينا هذه الأنشودة لا لتُذكرنا فقط بالحنين، بل لتضع إصبعها على الجرح القديم الذي ما زال ينزف:

غياب العدالة في التنمية، وتهميش الريف، وسوء التوزيع في الأحلام.

ما بعد الحرب يجب أن يكون ما بعد الظلم.

لا نريد بناء الخرطوم وحدها من جديد، بل نريد نثر الخرطوم في كل القرى، أن يشعر كل طفل، في كل ولاية، أن الحلم أقرب من شاشةٍ صغيرة.

لا نريد طفلةً تُنشد «متى أشوف الخرطوم؟»، بل نريد جيلاً يقول:

«أنا هنا… والخرطوم في قلبي، وفي قريتي، وفي وطني الكبير.»

وكما أنشد الفنان الكبير خليل إسماعيل، في رائعة الشاعر عمر البنا «أنا سوداني»:

• «كل أجزائه لنا وطنٌ إذ نباهي به ونفتتن

نتغنّى بحسنه أبدًا، دونه لا يروقنا حسن

حيث كنا حدت بنا ذكرى، ملؤها الشوق كلنا شجن…»

فهذا الوطن، كل الوطن، هو حقٌ للجميع، ليس حلماً مركّزاً في مدينة واحدة.

نريد وطنًا يتساوى فيه الريف بالخرطوم، وتُثمر فيه العدالة قبل الزراعة، والكرامة قبل الأسمنت.

آن الأوان أن نكتب نشيدًا جديدًا لا يسأل «متى أشوف الخرطوم؟»، بل يهتف من كل قرية، من كل ولاية:

• «أنا سوداني… وكل أجزائه لي وطن.»

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *