
البراء بشير
كاتب صحفي
• نستكمل في هذا المقال حديثنا عن من نطق في مهده من الصبية، ونفرد طفل أصحاب الأخدود بالحديث والتفصيل.
وأصحاب الأخدود هم قوم من بني إسرئيل، كان لهم ملك طاغيةٌ مُجحِف يَدِّعِي ما ليس له، وكان لهذا الملك ساحر كعادة ملوك ذاك الزمان ممن لم يقدروا الله حق قدره، إذ يستعينون بالسحرة في قضاء أمرهم وتصريف أعمالهم، ولا يخطون خطوة من غيرهم. ولما بلغ هذا الساحر الكِبَّر وأحس بقرب أجله، اقترح على الملك أن يختار له شاباً فَتِّياً من القوم يعلمه السحر الذي عنده حتى لا يضيع، فاختار الملك غلاماً أريباً كيِّساً ليخلف الساحر في أمره. وكان هذا الغلام يخرج من بيته متوجهاً إلى محل إقامة الساحر كل يوم، وفي ذات يوم وهو في طريقه لبيت الساحر مرَّ على صومعة بها راهب يتعبد الله معتزلاً الناس.
فسأله الشاب: ماذا تفعل؟! أجاب الراهب: أعبد الله قال الشاب: أليس الملك هو إِلَهُنا؟ قال: لا، إلهي وإلهك وإله الملك هو الله، وصار يعلمه.
ثم انطلق الفتى إلى الساحر، ولكن لإعجابه بهذا الراهب وقوله صار يتردد عليه في كل مرة يكون متجهاً فيها إلى الساحر ويتعلم منه.
وبعد مدة من الزمان قبض الله عز وجل روح الساحر، وصار هذا الفتى يشغل مكانه في نظر الناس؛ وفي ذات يوم رأى هذا الفتى الناسَ متوقفين خائفين وإذ دابة عظيمة تسدّ عليهم الطريق، فقال اليوم أعلم ما أحب الأمرين إلى الله عمل الراهب أم الساحر، وأخذ بحجر فقال اللهم إن كان أمر العابد أحب إليك فاقتل الدابة بهذا الحجر ورماه فماتت الدابة، فجاء الناس يشكرونه فقال: إنما هذا من أمر الله.
وأعطِيَ هذا الفتى من الكرامات ما أُعطِي؛ فكان يُعالِج الأمراض العَصِية بأمر الله عز وجل، وذاع صيته بين الناس إثر ذلك، وأصبح مقصداً للناس، وكان يقول لكل أحد يأتيه: تؤمن بالله ثم أدعُ لك.
سمع رجلٌ من جلساء الملك بشأن هذا الغلام، فأتاه وقال: رد عليّ بصري، قال الغلام: أنا أدعُ لك وإنما يرده عليك ربي، قال: ألك ربٌ غير الملك، فأجاب الفتى بإجابة التوحيد الخالصة، فقال الرجل: إذاً ادعُ لي، فدعا له فشفاه الله من العمى وعاد إلى الملك وهو يُبصر، فسأله الملك: من رد إليك بصرك؟
أجاب الرجل: الله، ودار بينهما سجال فقتله الملك، وأتى بالشاب وحاول قتله بشتى الطرق، مرة يأمر بعض جنده بإلقائه من الجبل، ومرة يأمرهم بإغراقه في البحر، وكان دعاء الفتى في كل مرة: اللهم أكفنيهم بما شئت، في المرة الأولى اهتز الجبل وسقط جند الملك ولم يسقط الغلام، وفي المرة الثانية أغرق الله جند الملك ونَجَّى الغلام، وكان يعود للملك في كل مرة ولا يهرب، ويسأله الملك عن أمر الجند فيقول: كفانيهم الله، ثم قال للملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تستجيب لأمري، وهو أن تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تربطني على ذلك الجدار وتأخذ سهماً من كِنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام، وترمي السهم فإن أصبتني قتلتني وإلا فلا. ففعل الملك ذلك بعد جمع الناس، فمات الغلام، فقال القوم جميعهم: آمنا برب الغلام، فأمر ذلك الملك الظالم بالأخاديد فحُفِرت واُشعِلت فيها النيران ثم قال: كل من لم يرجع إلى دينه -وهو عبادة الملك- ألقيته في النار .ولكن لم يرجع أحد.
وكانت هناك امرأة تحمل رضيعاً ترددت لأجله، فالتفت رضيعها إليها وقال: يا أماه أقدمي ولا تخافي. وهذا الرضيع هو سادس من تكلم في المهد وهو ختام السرد وبه يكتمل العِقد.
شارك المقال