رحلة جبلية.. رحلة صعبة: فدوى طوقان  تُحطِم ألواح «الوصايا»

44
cover02
Picture of بقلم : محمد بوزرواطة - الجزائر

بقلم : محمد بوزرواطة - الجزائر

-01-

تبدو كتابة «السيرة الذاتية» لدَى الكاتب  العربي شديدة الصعوبة، مَلأَى بالألغام والعثرات،فهو لا يستطيع  التوغُل أكثرفي حياته الخاصة  دون أن يصطدم بحواجز الدين وإكراهات المجتمع ومحظوراته، لذا نراه يتحفَّظ، أكثروهو يروي سيرة حياته ،أو نراهُ يلجأ إلى التلميح أوالاشارة دون الخوض في التفاصيل، التي قد تخدُش «الحياء العام» أوتنتهك حرمات المجتمع والدين، طبعا هناك استثناءات قليلة خرجت عن الطَوْق ، وتحدثت بجرأة لا مثيل  كمحمد شكري في خبزه الحافي،أو سُهيل إدريس في مذكراته ،التي  أثارت بعضًا من الجدل و الَّلغط، حول شذوذ والده الجنسي،في فترة  ماَ مِن حياة الكاتب في طفولته  الغابرة . 

-02-

وإذا كان وضْع ِالكاتب العربي، مَحفوفًا بالمخاطروالمحاذير، ومُحاطًا بالرقابة المتعدّدة الأوْجه  والصفات،الذاتيةِ منها والمجتمعية والدينية، فإنَّ وضع الكاتبة العربية ، يزدادَ ضراوة ، أمام مجتمع عربي ، لَا يُريد للكاتبة الإفصاح عن مكنوناتها والجَهْرِ الحقيقي بما عاشته وعانته، وإذا تيسَّر لها أن  تكتُبَ عن ذلك ، فلا يُمكِنُ لها أن تتعدَّى «خطوط الطول..خطوط العرض « بتعبير الروائي العراقي الراحل «عبد الرحمن مجيد الربيعي»  أو أن تَحِيدَ عن االدوائر المرسومة لها سلفاً، أو أن تُناطحَ «القلاع الراسخة» في مجتمعنا كالمساس بالدين، أو انتهاك «الأخلاق» ، في هذا السياق تبدو سيرة  الشاعرة الفلسطينية الراحلة» فدوى طوقان»  (1917-2003) التي صدرت عام 1985 الموسومة ب» رحلة جبلية ..رحلة صعبة» على جانب كبير من الأهمية،إن لم أقُل تُعتبرُ هذه السيرة الأولى من نوعها  تكتبُها إمرا ة بمزيد من الجرأة والكشف عن طبيعة مجتمع أبوي، يُولي عناية كبيرة للذكور على حساب الإناث،ويعمل  جاهداً على وَأْدِ أحلام أي فتاة  ترُومُ الانفلات من القهر والحيف الإجتماعي والديني، لذا تأتي هذه «السيرة» لِتخْرِجَ عن المألوف  والمتفق عليه،سيرة شُجاعة ، تتصدّى لقول «الحقيقة» كما هيَّ ، دون رتوش ٍأو تنميق،غيرَ آبِهةٍ بسلطة «الدين» أو قيود المجتمع، فصاحبته تتناول بجسارة عوالمَ الجسد وتُسائِل بجرأة بالغة، الموتَ والوجود، كما تتطرق إلى لحظة «الإنخطاف» القصوى، حينما اكتشفت-فدوى- نفسها «امرأة» بالغة النضج ، لحظتها أُصيبت  بالإنبهار والدهشة، أثناء َدخولها لأول  مرة، حَماماً للنساء «بنابلس» ، حيث تفتَّحَت عيونها  على نعومة الجسد الأنثوي  المُكْتنِز بأرداف النساء من كل لون. 

-03-

تروي» فدوى» بأسلوبها الجميل ،عن عائلتها ووالدها-عبد الفتاح- الذي لم تكُن تحبه، ولكنّها أيضا لم تكُن تكرهه بدافع الغريزة، مع أنه  كان شديد القساوة والتعامل معها، أمَا أمها فكانت خانعة مستسلمة لمشيئة الرجل ، وكانت على جانب من الفظاظة والّلامبالاة معها ،وقد تزوجت في سن الخامسة عشرة  وأنجبت عشرة أبناء (خمسة أولاد وخَمسُ بنات) ، احتلّت «فدوى» بينهم المرتبة السابعة ، ويبدو أن حَمْلَ الأم، لفدوى  لم يكن مرغوباً فيه، وقد حاولت –الأم- من جهتها ، قدر الإمكان التخلُصَ من الجنين ، بأيّ طريقة، باللجوء إلى عمليات  الإجهاض العديد من المرات ، لكنَّ كل المحاولات باءت بالفشل، كما لو أنَّ المصادفات الغريبة شاءت  لهذه «النبتة «أو الفتاة  أن تشُقَّ طريقها في الظلام قبل أن ترى النور، ويبدو أنّ هذا التعبير الاستعاري أقربَ إلى توصيف حالة  «فدوى طوقان»  طيلة مسار حياتها بأكمله، بدءاً من  اصطدامها العنيف مع أعراف مجتمع كانت ترفضه بشراسة بعقلها، لكنّها كانت مُضطرةً لِمُسايرته على نحْوٍ من الأنحَاء، وانتهاءً بحالات الإقتلاع  والتشريد الفلسطيني من الأرض والجذور.

-04-

هواجس كثيرة-إذاً- كانت تدعوها إلى  التساؤل حول ماهيّة الموت الذي بدأ في انتزاع  أعَزِّ الناس إليها،  كابنة عمها «شهيرة» التي أهلكها الموت بالروماتيزم وهي سن الرابعة عشرة أو شقيقها الشاعر الفلسطيني «ابرهيم طوقان» الذي ساندها كثيراً في تحصيلها المعرفي  والعلمي،وقد مات بذات الرئة عام 1941، لحظتها تقول فدوى» ..أحسَسْت باليُتم الحقيقي،وبالفقدان لم أُحِسُّه  من ذي قبل، حتي وفاة  والدي عام 1948،لم تؤثر فيّ  كماأثّرَ عليّ رحيل ابراهيم المُباغت…» .

وفي سياق مُتصل وفي عبارة صادمة تقول» ..ظلَّ موت هؤلاءغير مُبرَرٍ بالنسبة لي ،في أيٍّ حالٍ من الأحوال، حتى لو ذهب «الموت» بهم جميعاً إلى الجنة…وبقي «السؤال» مُعلقاً على شفتي الطفلة:..لماذا ماتوا، ورحلُوا عني؟، وكان السؤال يَطرحُ نفسه بكل بساطة الطفولة ووضوحها»

بمثل هذا الحكي الرائع،والمُدهش، الذي لا تكلُّفَ فيه، تواصل صاحبة ديوان «وحدي مع الأيام» مغامرتها الكبرى لمعانقة أحلامها ،عبر رحلتها إلى «انجلترا» عام 1962 للدراسة  وبتشجيع من ابن عمها،فاروق،  حيث حفّزها هذا الأخير للمجيء إلى لندن لمواصلة مشوراها العلمي ،وهناك فقط  أَفْردَت شاعرتنا «فدوى طوقان» أجنحتها  للعلم والحب والحرية.

هوامش: 

     -رحلة جبلية..رحلة صعبة..ط01 دار الشروق الأردن 1985

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *