رواية ملوك الكمنجة

199
جمال محجوب
Picture of د. أحمد الصادق أحمد

د. أحمد الصادق أحمد

أستاذ جامعي وناقد

• بعد غيبة طويلة، عاد جمال محجوب الي عالم الرواية. فقد توقف لسنوات وانصرف الي كتابة الرواية البوليسية وباسم بيتر بلال. كانت اخر روايته «تلاشي خط الأفق»-2006، الي ان عاد الي المشهد بسيرته الموسومة «الخرطوم: المدينة والنهر والذكريات».

عاد جمال مرة أخري وبه شوق وحنين وبعودته لموارده الأولي، السودان عشقه الأبدي أو كما قال. عاد لما حلم بالكتابة عنه، ألا وهو الموسيقي والغناء وكيف أنه تربي في أجواء يسمع فيها حسن عطية وابراهيم الكاشف وعثمان حسين والبلابل. احتفت بها الأوساط الأدبية في ذات الوقت الذي احتفاء بعودته لعوالمه السردية. 

في الجزء الأول من الرواية، بعتبات نصية من الحسين الحسن: كثير الغيوم   قصير العمر، من الأغنية الأكثر شيوعا وتلق «حبيبة عمري». نلتقي الأستاذ رشدي مدرس اللغة الإنجليزية-راو عارف- ونستمع الي سرديته/سردياته من فضاء سردي واضح الملامح-الخرطوم بحري- في أزمنة متداخلة مع بعضها البعض وإيقاع سردي آسر. ومن متواتر حكاياته ندرك ان الأستاذ رشدي قد تم إيقافه بتهمة اشاراته واحالاته المتكررة لنظرية النشؤ والارتقاء لدارون. في ذات السياق يقول انها مؤامرة من زملائه وبقيادة مدير المدرسة. عاد الي منزله حيث يسكن مع والدته وعمه المتقاعد وذلك منذ وفاة والده. يطرق باب المنزل ولما فتح رشدي الباب، يطالعه وجه سيدة وعلى فمها سيجارة وبها بقايا جمال حزين. وسرعان ما تعرف العم ماهر عليها ولما تمضي بضعة دقائق ويفاجأ رشدي ولأول مرة بأن عمه -عم ماهر- كان عازفا شهيرا وان تلك السيدة الغامضة، كما بدت لرشدي، كانت فنانة/مغنية ذائعة الصيت في زمن مضي وكان عمه أحد كبار العازفين في فرقتها الغنائية. وتكشفت حقيقة العم الذي يعلم رشدي أنه وعلى الرغم من تقاعده منذ زمن طويل الا أنه لم يتنازل يوما عن المغني أو حتى انه ترك شلته القديمة وأعضاء فرقته التي اشتهرت باسم «ملوك الكمنجة».

خرجت تلك السيدة بعد ساعات قضتها مع عم ماهر والذي بدت عليه علامات السرورو البهجة. تطورت الأحداث من بعد ذلك وتسارع إيقاع السرد حتى لحظة اجتمع فيها أعضاء الفرقة الموسيقية الغنائية القديمة التي تفرق أعضاؤها أيدي سبأ، بعد سنوات عسف وعنف دولة مارقة، وقرروا أن يستعيدوا تلك الأزمنة الذهبية. وهكذا تسرب الي بيت العم ماهر، الذي هو ولي أمر رشدي المدرس المغضوب عليه بسبب عيارات خطاب الدولة الأيديولوجي عبر أجهزتها الأيدلوجية، ومن بعد مشقة وعنت عظيمين، أعضاء الفرقة الذين-وهذا ذكاء سردي عظيم من المؤلف، مثّلوا كل ألوان الطيف الموسيقي في السودان: من تمتم الي دليب الي آخر شفرات وعلامات التنوع والتعدد والاختلاف في ذاكرة السودان الموسيقية. من تلك السيدة العظيمة الكناري، المطربة التي ذاعت شهرتها في سن مبكرة وبنت أختها شادية وهشام صديق رشدي وجون واو والمثقف والقارئ الحصيف والموسيقار المحترف آدم كادقلي وأخيرا متعهد الحفلات الموسيقية السيد غندوري. وتدور معظم أحدثها في الولايات المتحدة الأمريكية.

ربما كانت أزمنة الرواية المتخيلة التي تحيلك لذاكرة ملتبسة قليلا، الا أن بضعة مشاهد وحوارات تحيلك لسنة الجراد- المجاعة وسنوات الجفاف والتصحّر البؤس الذي خيّم على أرض السودان وتتداخل الأزمنة فيما بين نهاية حكم نميري وما بعد الانتفاضة. أشرنا الي أن جمال أفتي في هوامش توضيحية: انه لطالما حلم بالكتابة عن فرادة وتميز الموسيقي السودانية وأضاف انه كم انفعل بما حدث لكثير من الفنانين، الموسيقيون والمغنون لما حاق بهم من عنف وأذى ومنذ أن كان ينظر إليهم كصعاليك.

علي الرغم من قناعة رشدي باستحالة فكرة احياء مناشط جوقة الكمنجات الضائعة الا انه ولدهشته تواترت بروفاتها وسرعان ما استعادوا ألقهم بل واستعادوا التواصل الإنساني الحميم وازمنتهم الاجتماعية أيضا. هنا يظهر أحد متعهدي الحفلات الموسيقية ويدعي غندوري بزعم ترتيب حفلات في أمريكا. وقد كان. بمجرد وصولهم اكتشفوا ان فساد ونصب واحتيال غندوري. اختفي فجأة. وترتب على كل ذلك مواجهة أجهزة الهجرة ومطاردة تلك الأجهزة لهم. في ذات الوقت كان عليهم مطاردة مستر غندوري لاسترداد حقوقهم. في هذه الأثناء ازدادوا قربا من بعضهم البعض واندفعوا في تواصل حميم زادته الغربة والصقيع وملاحقة السلطات لهم ألفة ومحبة. وبقدرما تتوتر الأوضاع من حولهم بقدر ما ازدادوا قربا، طلعوا ونزلوا درجا واحدا كبير مئات المرات في سبيل فسحة من الأمن والاستقرار حينما ظهر الأمريكي الطيب والدو ليكون منقذهم بلا من ولا أذى. في لحظة تراجيدية تموت الكناري مما ضاعف من بؤسهم … تتواتر الأحداث سريعا ليرتفع إيقاع السرد لتهدأ مرة ثانية ويعود الجميع بسلام. 

الفصول من 30 وحتى 32 بها ذلك التوتر الدرامي من تكثيف للأحداث، هنا وهناك إشارات للأيديولوجي، الأثني و القبلي بل وحتى ضرورة أن دعم ذهاب الرئيس الي الجنائية، موسيقي من الشرق والغرب والجنوب والشمال وكأن جمال أراد للموسيقي أن تكون لغة قومية علي غرار لغة كونية تحدث بها العالم أجمع نواحي برج بابل و هو اللسان الذي علمه الله لأبينا آدم حتي يعم السلام هذا الكون، نتجاوز بها كل تلك الاحن و المحن و البؤس و الموات. اشارات متعددة لموسيقي الجاز والبلوز والراب: أجواء كلها موسيقي، ملوك وكنداكات. 

في خواتيم الرواية نقرأ:

«يبدو أن رحلتنا تلك بمثابة (ضربة) البداية أفضت الي لحظة تاريخية. الثورة انطلقت. احتلّ الناس الميادين والساحات وطالبوا بسقوط النظام. يبدو انها بداية رحلة جديدة … علي الأقل فان ملوك الكمنجة قد شكلوا مصدرا للإلهام … و أسهموا و لو كان قدرا ضئيلا … هنالك لحظات يسجلها التاريخ، أو تسجل في كتب التاريخ، الّا أن هنالك لحظات أخري لا يقف عندها التاريخ أو كتبه و هذا مما يذكرنا بأن المعجزات واردة بل و ممكنة الحدوث، تأتي و تروح في رمشة عين، ننتزع الخلود في لمح البصر، تمكننا من الصعود الي السماء، الي الفردوس، ترتفع أرواحنا في ليلة حالكة و ملتبسة، و التي عاجلا أو آجلا سوف تنسدل سترها علي الكون كله، ان لم يكن ذلك هو جوهر الموسيقي، لا أدري ما هو!.»

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *