
نجيب عصام يماني
كاتب صحفي سعودي
• لم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي يوماً مجرد تبادل مصالح آنية، بل بنيت عبر عقود على أسس من التعاون الاستراتيجي والشراكة في ملفات حساسة، أمنية وسياسية، واقتصادية. غير أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومنذ لحظة دخوله البيت الأبيض، أدخل هذه العلاقات في نفق جديد من التوتر والابتزاز المعلن. فقد اختار لغة لا تليق بحجم التحالف ولا بمكانة قادة الدول، مخاطباً دول الخليج بأسلوب تجاري فجّ، يقوم على مبدأ «ادفعوا لنحميكم»، متجاوزاً بذلك حدود اللباقة السياسية، ومحوّلاً الحلفاء إلى زبائن يدفعون تحت التهديد.
لغة تجارية تفتقر للدبلوماسية
ترامب، الذي جاء إلى الرئاسة بروح رجل الأعمال، تعامل مع السياسة الخارجية بعقلية الصفقة. في خطاباته المتكررة، لم يتوانَ عن تذكير دول الخليج بأنها تحت حماية الولايات المتحدة، وأن عليها أن تدفع ثمن هذه الحماية. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، ملوّحاً بانسحاب القوات الأمريكية إذا لم تُدفع «الفواتير»، كما وصفها. هذه التصريحات، التي جرى تكرارها علناً، ليست مجرد رأي سياسي، بل تمثل نسفاً للأعراف الدبلوماسية، واستهانة صريحة بحلفاء شكلوا لسنوات أحد أركان النفوذ الأمريكي في المنطقة.
النتائج العكسية لهذا النهج
قد يرى ترامب في خطابه نصراً شعبوياً داخلياً، لكنه يجهل – أو يتغافل – أن هذا النهج يُقوّض عمق العلاقة مع الخليج على المدى الطويل. إذ إن دول الخليج، التي لطالما التزمت بالاتفاقات ووقفت إلى جانب واشنطن في محطات صعبة، بدأت تُعيد تقييم موقفها من هذه العلاقة المختلة.
ومن أبرز الآثار التي يمكن أن تنجم عن هذا النهج
1- فقدان الثقة السياسية: فدولة تُهدد حلفاءها علناً لن تُحترم كشريك موثوق.
2- إعادة توجيه الاستثمارات: مليارات الدولارات التي تتدفق إلى الأسواق الأمريكية يمكن أن تُعاد برمجتها نحو وجهات بديلة، أكثر احتراماً وأكثر التزاماً بالشراكة.
3- فتح الباب أمام الصين وروسيا: في ظل هذا الابتزاز الأمريكي، تظهر الصين وروسيا كبديلين استراتيجيين قابلين للنمو، ويملكان ما يكفي من الذكاء السياسي للتعامل بندية واحترام مع دول الخليج.
الصين وروسيا البديل الممكن والفاعل
التحول نحو قوى كبرى كالصين وروسيا لم يعد فكرة خيالية أو مخاطرة، بل بات خياراً واقعياً قيد الدراسة والتنفيذ لدى أكثر من دولة خليجية. فالصين، بسياسة «الحزام والطريق»، تعرض شراكات استراتيجية طويلة الأمد، لا تقوم على الابتزاز، بل على مبدأ «الربح المشترك». أما روسيا، ورغم التوترات الغربية، فقد نجحت في بناء حضور قوي في ملفات كبرى بالمنطقة، من سوريا إلى الطاقة.
التحالف مع هذه القوى لا يعني القطيعة مع الغرب، بل إعادة التوازن، والخروج من عباءة التبعية. فالكرامة السياسية لا تُشترى، والقرار المستقل لا يُفرض عليه ثمن.
المطلوب قرارات جريئة
استمرار الولايات المتحدة – عبر رموزها السياسية الشعبوية – في استخدام لغة التهديد تجاه الخليج، يجب أن يُقابل بقرارات سيادية شجاعة. ومن هذه القرارات:
تنويع الشراكات العسكرية والاقتصادية.
إطلاق مشاريع استراتيجية مشتركة مع الصين وروسيا في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا.
تأسيس قوة دفاع خليجية مشتركة، تقلل الاعتماد على الحماية الأمريكية.
وقف ضخ الاستثمارات الضخمة في الأصول الأمريكية كوسيلة ضغط سياسي واقتصادي.
لغة ترامب لم تكن مجرد زلة لسان، بل كانت انعكاساً لعقيدة جديدة في السياسة الأمريكية، تقوم على المنفعة المباشرة وغياب الاحترام المتبادل. والتاريخ يعلمنا أن الدول لا تُبنى على الخضوع، بل على الكرامة. واليوم، يملك قادة الخليج فرصة ذهبية لإعادة صياغة موقعهم في النظام العالمي، من خلال خيارات جريئة تحمي السيادة وتعيد التوازن للعلاقات الدولية. فزمن الهيمنة الصامتة قد ولّى، وجاء وقت الرد الحازم بلغة المصالح والمواقف، لا بلغة التبعية والسكوت عن الإهانة.
شارك المقال