جائزة الطيب صالح واستعادة الحياة

40
الطيب صالح
Picture of بقلم: محمد الكاظم

بقلم: محمد الكاظم

كاتب عراقي

• لم أزر السودان سوى مرة واحدة، ففرص الحياة لم تسمح بغير ذلك. وكنت منشغلاً بهمّي العراقي ووجع بغداد الذي امتد لعقود، واعترف بأني لم أجهد نفسي بما فيه الكفاية لأعرف الكثير عن السودان. وكنت اكتفي بما تقوله القنوات الفضائية وما يقوله كتاب الجغرافيا الذي درسته في المدرسة، لذلك بقيت معلوماتي عن هذا البلد العزيز بسيطة لا تتعدى المعلومات الاولية التي يتداولها الاعلام.

عشت في تسع عواصم عربية لم تكن الخرطوم من ضمنها. وكانت هذه العواصم سبباً آخر لأكون مشغولاً عن الخرطوم بالتعرف على أخواتها. الخرطوم شديدة الحياء ايضاً، فهي مختلفة عن العواصم الاخرى التي تدخل علينا الى بيوتنا بأفلامها ومسلسلاتها واغانيها وكتبها وفعالياتها ومهرجاناتها.

وجاءت الفرصة للقاء مدينة الخرطوم عندما كنت أحد الفائزين بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في مجال القصة القصيرة في احدى دوراتها الاولى. وكنت متشوقاً للقاء هذه السمراء التي يحتضنها النيل العظيم، ومتلهفاً للقاء اهلها المضيافين. لكن بُعد المسافة، وطول الطريق بين بغداد والخرطوم، وزيارة مدينة جديدة لم أزرها سابقاً، وتعثر بعض الإجراءات الروتينية أقلقني قليلاً وأوحى لي بأن هذه السمراء تتمنع عليّ لعدم وجود حبل للتواصل بيننا، لكن ذلك التمنع تحول فيما بعد الى عشق دائم، وقلق دائم ايضاً.

هناك مدن تحبها من أول نظرة، الخرطوم من هذه المدن القريبة الى القلب. ربما بسبب وجود النيل، فانا قادم من أرض دجلة والفرات، ونحن في بلادنا معتادون على رؤية النهر طوال ساعات يومنا، رؤية النيل جعلني اشعر انني في بلدي. بصراحة، لقد عشقت هذه المدينة قبل ان اراها منذ ان استمعت الى صوت الاديب الكبير مجذوب عيدروس الامين العام لجائزة الطيب صالح وهو يحدثني عبر الهاتف ليطمئن بنفسه الى اجراءات السفر، رغم ان الاخوة والاخوات الموكلين بهذا الأمر كانوا يدققون في أصغر التفاصيل التي تضمن وصول الضيوف بسلام وراحة. لكن حرصه على انجاح الفعالية جعله يطمئن الى ان كل الامور تسير بطريقة صحيحة، هذا الحرص تجلى منذ وصولنا حتى مغادرتنا حيث حرص مجذوب ان يرافقنا طيلة الوقت ساهراً على اقامتنا واحتياجاتنا. حتى اشفقنا على صحته. كان الرجل متفانياً في حرصة على سمعة الجائزة وفعالياتها.

كنت استمتع باتصالات مجذوب الذي يطمئن على الصغيرة والكبيرة رغم انه الأمين العام للجائزة وكان يمكن ان يوكل امر الأمور اللوجستية الى مساعديه. أحببت اتصالات مجذوب لسبب آخر فانا اعلامي اعمل في مجال الاذاعة والتلفزيون، وقد شدتني تلك النبرة العميقة في صوته قبل ان التقيه. ولا اغالي إذا قلت ان الأستاذ مجذوب عيدروس كان لوحده وزارة اعلام وثقافة لبلده، وكان محرك الجائزة الذي لا يهدأ وعلامتها المميزة.

كانت الابتسامة السودانية والكرم والحفاوة تجعلك تشعر أنك تعرف الجميع منذ سنوات طويلة. وطيبة ونبل ابناء هذا البلد الكريم تشعرك بأنك بين اهلك واصدقائك.

في اول اطلالة لي من نافذة الفندق شعرت بحجم الامكانيات السياحية والاقتصادية والزراعية والبشرية التي يمتلكها السودان كما شعرت بحجم حاجة السودان الى الحضور العربي (الإيجابي) الذي يبني ويدعم مشروعات التنمية ويحرك عجلة الاقتصاد. لا الذي يعرقل ويسيء الى الاستقرار ويضع حياة الناس وثروات البلاد على المحك، كما شعرت بخصوصية السودان التي لا يمكن وضعها في قالب أيديولوجي فالسودان طائر له جناح عربي إسلامي وجناح آخر افريقي، وهناك نسيج ثقافي متشابك معقد يربط الجناحين.

كانت احتفالية جائزة الطيب صالح مناخاً لتلاقح الافكار وتواصل العقول والمشاعر، وفرصة طيبة لفهم سودان آخر غير السودان الذي تصوره القنوات الفضائية والتحليلات المتشائمة التي تقول ان السودان سيضيع وينتهي الى الابد.

من المهم الإشادة بجهد العاملين على انجاح جائزة الطيب صالح سواء الشركة الراعية للفعالية وهي شركة زين السودان التي حرصت على ان تكون رائدة في دعم الثقافة والابداع العربي والتواصل الفكري، عبر دعمها لهذه الجائزة المهمة، كما هي شركة رائدة في مجال التواصل الانساني في الإطار الحضاري للثقافة 

اثناء تلك الزيارة وجدت في السودان حباً واحتراماً فطرياً للأدب والفن، وكان الاخوة في امانة الجائزة يحرصون على اطلاعنا على الابداع والفن والثقافة السودانية الاصيلة وعلى التراث الموسيقي والاجتماعي للسودان وعلى اشكال مختلفة من الانماط الثقافية التي تزخر بها أرض السودان. هذا الفيض من الفن والوجد والابداع والسماحة والاصالة اثار اعجاب واحترام جميع الضيوف لأهل هذا البلد المحب للفن والحياة. وبدا لي واضحاً ان جمال هذا البلد في تنوعه، وقوته تمكن في هذا المزيج الرائع من الثقافات.

كما نظرت باحترام كبير للحضور الواسع المدهش للمرأة السودانية في مختلف الانشطة الثقافية والحياتية، كما اعجبني ايضا اهتمامات المثقف السوداني بما حوله ميله للدفاع عن هويته وانتماءه بمواجهة التحديات التي يواجهها، فالسوداني مولع دائماً بحمل هموم ثقافية منتجة تضاف الى همومه اليومية وهموم بلاده. 

لقد حققت الجائزة نجاحاً كبيراً، وطالما كانت مدار حديث بين الادباء العرب الذين كنت التقيهم في فعاليات أخرى في البلاد العربية، نظراً لأنها تتمتع بأهم العناصر التي تحتاجها مثل هذه الجوائز الأدبية؛ اسم الطيب صالح ورمزيته، وضيافة الانسان السوداني وسماحته، وحسن الادارة والتمويل، والاهتمام بالتفاصيل، اضافة الى اهم نقطة تحتاج الجوائز الابداعية الى توفرها وهي النزاهة. 

لقد اشتركتُ شخصياً في عدد من الجوائز كبير من الفعاليات والجوائز الثقافية العربية ككاتب متنافس، أو كمنظّم، أو كعضو في لجنة تحكيم، وأستطيع ان أقول بضرس قاطع ان جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي كانت من أكثر الجوائز العربية نزاهة وتنظيماً وتأثيراً، وقد كنا نشعر بالحزن لتوقفها نتيجة للظروف القاسية التي عاشتها البلاد، ونتمنى ذلك اليوم الذي تعود فيه تلك الجائزة لرفد الابداع العربي بالمزيد من الوهج والتألق، ولربط البلاد بحركة الحياة وانتشالها من مرارة الحرب، لقد عشتُ ظروف الحرب في بلدي العراق، وأعرف ان الحراك الثقافي والابداعي يمكن ان يساهم في إعادة الحياة، ويساهم في دعم الاستقرار، ويساهم في استعادة الأمل والشعور بالثقة تجاه المستقبل، ويشجع الاستثمار ودوران عجلة الاقتصاد، ويتيح مجالاً أكبر للحوار وتعزيز المشتركات، ومغادرة مرحلة الحرب الى مرحلة بناء قيم التعايش. وبما ان ذكرياتي بالسودان كلها مرتبطة بجائزة الطيب صالح يجب ان أقول ان عودة جائزة الطيب صالح للإبداع وغيرها من الفعاليات الثقافية خطوة في هذا الاتجاه. أدعو الله ان يحفظ السودان وأهله وان يجنبهم كل مكروه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *