معتصم تاج السر

معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• حين يسكن القلب عرش المحبة، وتضيق اللغة عن وصف الشعور، تبدأ الروح رحلتها الخالصة نحو النور.

حيث تسجد الأرواح طواعية لله، وتذوب الكائنات في حضرة محبة رب العالمين.

في هذا الدرب حيث القلوب تسير قبل الأقدام، والأنفاس تتهجد قبل الألسن، هناك حيث تنحني الأرواح خضوعاً في حضرة الجمال.

وتتهادى الأرواح بين لطف الخدمة وبهاء المحبة، وبين مقام العابدين ومقام العاشقين، وبين خُطى السالكين وهم يلهثون وراء رضا الرحمن.

قلوب غمرها النور فذاب فيها الوجود ولم يبقَ إلا الله.

كما قال ابن عطاء السكندري:

«قومٌ أقامهم الحق لخدمته وقومٌ اختصهم برحمته».

إنهم قوم عُبّادٌ وزُهّادٌ لا يعرفون للراحة طريقاً، يسيرون بين السجادة والمحراب يقيمون الليل ويُطهرون النهار بذكره. 

فالخُدّام هم الزُهّاد العُبّاد، الذين صافحت جباههم أرض السجود، وذابت أرواحهم في طقوس الطاعة، جعلوا من أعمارهم وقفاً على باب الله، يحيون في ذكره ويموتون شوقاً للقرب منه.

ومن اختصهم برحمته قوم ذابوا حباً حتى نسوا أنفسهم، سكنت المحبة قلوبهم فآثروه على كل شيء، ورأوه في كل شيء، واستغنوا به عن كل شيء. أولئك هم المحبون العارفون، الواصلون الذين لا يعرفون لغير الله وطناً ولا سكناً.

إنهم قومٌ اختصهم الله بعطر محبته، فلم تعد أعينهم تبصر سواه، ولم تعد قلوبهم تهفو لغيره.

المُحب آثره على كل شيء، صارت الدنيا عنده عطراً باهتاً أمام عبير القرب.

والعارف من شهد الله في كل شيء، رآه في ابتسامة طفل، وفي غصن شجرة، وفي شروق شمس وخفوت نجم.

والواصل من استغنى بالله عن كل شيء، فلم يعد القلب يحمل غير اسمه جلّ جلاله، ولم يعد يخاف الفقد لأن الله وحده كفاه.

الكل مشمول بعطاءٍ لا يُمنع، وفضل لا يُحجب، وحنان لا يزول، لأن الله بحُبهِ يمدُّ الجميع. 

الخادم والمحب، السائل والواصل، العابد والعاشق.

وفي فيض رحمته قال الحق:

(كُلًّا نُّمِدُّ هَـؤُلَاءِ وَهَـؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).

فلا أحد يُحرم من فيضه، ولا روح تُنسى تحت سمائه، الكل في رعاية عطائه، والكل محمول على جناح الرحمة.

لكن فوق كل هؤلاء هناك قلب واحد..! 

قلبٌ خُلق ليكون حبيب الله، سيد العاشقين، إمام الواصلين، وتاج العارفين سيدنا وحبيبنا محمد – صلى الله عليه وسلم- رسول رب العالمين الرحمة المهدأة والسراج المنير.

هو الرسول الخاتم، والعبد الكامل، صلى الله عليه وسلم، الذي جمع بين الخدمة والمحبة حتى صار العشق والعبودية فيه نوراً واحداً لا ينفصل. حينما سُئل عن تعب قدميه في قيام الليل، ردّ بقلب ذائب حباً لله:

«أفلا أكون عبداً شكوراً؟».

هو المحب الأعظم الذي أحب ربه بلا شرط، واصطفاه الله بلا حد، وأشركه في سر القرب حتى صار «قاب قوسين أو أدنى»، وكأنه في كل لحظة يقول لنا:

إذا أردتم أن تعرفوا مقام الحُبِّ فأذكروا محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو سيد المحبين وحبيب رب العالمين، قال تعالى:(قُلْ إِن كُنتُم تُحِبُّون اللَّهَ فاتَّبِعُوني يُحبِبكُم اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم واللَّه غَفُور رحِيم)

يا لسحر هذا المقام…!

فكل العاشقين طريقهم يمرّ من قلبه الطاهر، صلى الله عليه وسلم، وكل العارفين لا يشهدون جمال الله إلا من خلال نوره هو باب المحبة، ومفتاح العشق، وصاحب القلب الذي وسع الكون رحمة.

صلى الله عليه وسلم سيد القلوب العاشقة، وسند الأرواح الظامئة، وشفيع الواصلين ومنتهى الأشواق.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد المحبين حبيبك سيدنا محمد صلاةً تملأ قلوبنا نوراً، وتغسل أرواحنا حباً، وتروينا من نبع عطائك الذي لا ينضب.

اللهم اجعلنا ممن أقمتهم لخدمتك، وممن اختصصتهم برحمتك، وممن ذاقوا طعم القرب منك حتى لا يهووا سواك، ولا يفتنهم عنك شيء يا كريم العطاء ويا واسع الرحمة.

اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، واملأ قلوبنا بمراقبتك حتى نراك في كل شيء، ونذكرك مع كل نفس، ونسكن في ظل رضاك للأبد.

اللهم بجاه سيد المحبين وشفاعة الحبيب المصطفى محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، اجعلنا من المحبوبين لديك، المقربين إليك، ولا تجعلنا ممن غفل عنك، ولا من الذين حُجب عنهم نورك.

يا من وسعت رحمتك كل شيء، اجعلنا ممن تفيض عليهم عطاياك في الدنيا والآخرة، واختم لنا بمحبتك، واسقنا من يد نبيك، صلى الله عليه وسلم، شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

وصلى الله وسلم على سيد المحبين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *