
«الدعم السريع» نهبت مقتنيات المتاحف وتهريب آثار السودان إلى مزادات الإنترنت
الخرطوم – «فويس، بي بي سي، إندبندنت»
استفاق السودانيون، الاثنين، على فاجعة مروعة، مع توارد أنباء وصور تظهر الدمار الذي حل بالمتحف القومي في الخرطوم، أحد أبرز المعالم التاريخية في البلاد، والذي كان يضم بين جنباته إرثا حضاريا يمتد لآلاف السنين. وبدا المشهد قاتما، قاعات خاوية، تماثيل محطمة، وماضٍ سحقته آلة الحرب بلا هوادة. وعلى وقع هذا الدمار، ضجّت منصات التواصل الاجتماعي بحالة من الحزن والغضب، حيث وجّهت أصابع الاتهام لقوات «الدعم السريع» التي تسيطر على المتحف منذ اندلاع الحرب قبل عامين.

ووصف البعض ما حدث بأنها «مذبحة للتاريخ»، في وقت كان فيه المتحف يُعدّ من أبرز خزائن التراث السوداني، محتضنا قطعا أثرية تعود إلى عصور مختلفة، بدءا من العصر الحجري، مرورا بحضارات كرمة ونبتة ومروي، وصولا إلى الفترات المسيحية والإسلامية. أصبح اليوم « خاوية على عروشها». ولم يقتصر الأمر على المتحف القومي والمستودع الأثري الرئيس داخله، بل امتد إلى متاحف القصر الجمهوري وبيت الخليفة والتاريخ الطبيعي ومتحف الإثنوغرافيا ودار الوثائق القومية ومتحف نيالا في دارفور لعمليات تدمير ونهب وتهريب. وكان السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي تداولوا بكثير من الحسرة والغضب والاستياء الأنباء عن ظهور مقتنيات وقطع أثرية مهمة تمثل تراث وتاريخ وحضارة وهوية البلاد معروضة للبيع عبر الإنترنت، فضلاً عن التعدي والتخريب والأضرار الكبيرة التي طاولت قطاع المتاحف بخاصة في أم درمان والخرطوم، إضافة إلى عمليات النهب والتهريب الواسعة لمحتويات المتاحف.

تحفة معمارية وتاريخ حافل
على ضفاف النيل الأزرق، وتحديدا في شارع النيل بمحاذاة قاعة الصداقة، كان يقف متحف السودان القومي شامخًا منذ افتتاحه عام 1971، حاملا بين جدرانه أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، تحكي فصولا ممتدة من تاريخ البلاد، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الإسلامية.
وتعود جذور المتحف إلى عام 1904، حين جرى تأسيسه في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، قبل أن يُنقل لاحقًا إلى مقره الحالي، حيث تحوّل إلى إحدى أبرز الوجهات الثقافية في السودان، لا سيما مع احتضانه مقتنيات نادرة من حضارات كوش والنوبة، إلى جانب معابد فرعونية ولوحات جدارية مسيحية.

معابد نجت من الغرق… ولم تنجُ من الحرب
ومن أبرز معالم المتحف، ذلك الفناء الواسع الذي كان يضم متحفا مفتوحا، جرى فيه تجميع معابد ومدافن ونصب تذكارية نجت من الغرق خلال تشييد السد العالي في ستينيات القرن الماضي. وكان المشهد هناك أشبه بلوحة فنية، حيث أُعيد تركيب هذه الآثار حول حوض مائي، ليبدو وكأنها ما زالت قائمة في مواطنها الأصلية على ضفتي نهر النيل.
ومن بين أبرز هذه المعالم
معابد سمنة شرق وسمنة غرب وبوهين التي تعود إلى العصر الفرعوني. مقبرة الأمير حجو تو حتب، أحد قادة مملكة كوش. أعمدة كاتدرائية فرس، التي تعود إلى الحقبة المسيحية في السودان.

سرقة التاريخ
عقب تحرير العاصمة الخرطوم من قبضة قوات «الدعم السريع» كشفت زيارات مديري المتاحف عن عمليات تدمير وتخريب ونهب وتهريب للمحتويات والمقتنيات النادرة.
وتعرض متحف القصر الجمهوري لتخريب وسرقة وثائق تاريخية توثق مقاومة السودانيين للاستعمار ومقاومة الدولة المهدية للحكم التركي، وكذلك وثائق كل ما يتصل بصور رؤساء السودان على مختلف الحقب وسيرتهم الذاتية بدءاً من الراحل إسماعيل الأزهري أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال وحتى مجلس السيادة الحالي، كما نُهب أثاث وأدوات استخدمت في فترة الحكم الثنائي والهدايا الرئاسية من أماكن مختلفة داخل وخارج السودان.
وتعرضت مقتنيات اللواء في الجيش البريطاني والإداري البارز في الحقبة الاستعمارية تشارلز جورج غردون الثمينة للنهب بالكامل، في حين خُربت ودُمرت ست سيارات يزيد عمرها على 88 عاماً (سيارات التشريفة الرئاسية)، التي استخدمها حكام السودان منذ عصور الاستعمار، وصولاً إلى رؤساء الحكم الوطني الذي تولى خلاله السودانيون السلطة في بلادهم بعد الاستقلال.

استهداف تراث السودان
إلى ذلك اتهمت وزارة الخارجية السودانية في بيان صحافي، الثلاثاء الماضي، قوات «الدعم السريع» بتنفيذ تدمير متعمد للمتحف القومي السوداني «ونهب مقتنياته التي تلخص حضارة 7 آلاف عام، مع استهداف جميع المتاحف الموجودة في العاصمة الكبرى، وهي متاحف بيت الخليفة والإثنوغرافيا والقصر الجمهوري، وكذلك متحفا القوات المسلحة والتاريخ الطبيعي في جامعة الخرطوم، إلى جانب متحف السلطان علي دينار بالفاشر». وتابع البيان «في الوقت نفسه استهدفت الميليشيات دار الوثائق القومية وعدداً كبيراً من المكتبات العامة والخاصة والجامعات والمعامل والمساجد والكنائس ذات القيمة التاريخية في العاصمة وود مدني، مما يوضح أن المخطط كان يستهدف محو الهوية الثقافية الوطنية».
الخارجية السودانية ذكرت أن ما جرى عبارة عن عمل ممنهج استهدف التاريخ والتراث القومي للبلاد، موضحة أن المحفوظات الأثرية في المتحف القومي تعرضت للنهب والتهريب عبر اثنتين من دول الجوار، وعدت في بيانها أن تلك الاعتداءات تشكل جرائم حرب بموجب المادة الثامنة من «نظام روما» الأساسي و»اتفاقية لاهاي» 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات، و»اتفاقية يونيسكو» لعام 1970 بخصوص حظر الاتجار بالممتلكات الثقافية، كما تماثل سلوك الجماعات الإرهابية في استهداف الآثار والتراث الثقافي للمجتمعات.
وأكدت أن حكومة السودان ستواصل جهودها مع الـ«يونيسكو» والـ«إنتربول» وكل المنظمات المعنية بحماية المتاحف والآثار والممتلكات الثقافية، لاستعادة ما نهب من محتويات المتحف القومي وبقية المتاحف ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وطالبت المجتمع الدولي بإدانة ذلك السلوك الإرهابي من الميليشيات ومن يقفون وراءها.

مقتنيات للبيع
في السياق أشار المتخصص في مجال الآثار والمتاحف عوض شعيب إلى أن «عمليات سرقة محتويات المتحف القومي بدأت منذ أغسطس (آب) 2023 إثر اقتحام قوات «الدعم السريع» المتحف والاستيلاء عليه واستمرار بقائها في هذه المنطقة».
وأوضح أن «بعض القطع الأثرية التي عرضت للبيع عبر الإنترنت لا تنتمي فقط إلى الشعب السوداني، بل هي جزء من التراث الإنساني العريق، وتلزم القوانين الدولية الجميع بحمايتها والمحافظة عليها».
وعبر شعيب، عن بالغ أسفه للسرقة التي تعرض لها أهم وأكبر متاحف السودان الذي يضم مستودعاً لجميع آثار البلاد بكل محتوياتها التاريخية الثمينة وأهميتها البالغة التي لا تقدر بثمن.

وحدة متخصصة
على الصعيد نفسه، كشف المدير السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية عبدالرحمن علي، أن الجهات المتخصصة شرعت في إجراءات حصر ومتابعة الآثار الوطنية التي خرجت من البلاد بصورة غير شرعية سواء عبر السرقة أو التهريب، منذ الفترات الاستعمارية وما بعدها.
وأوضح علي أن الأجهزة المتخصصة بدأت في متابعة القطع الأثرية المحمية بالاتفاقات الدولية الخاصة بعدم تهريب الآثار من أوطانها الأصلية وعلى رأسها اتفاقية «يونيسكو» لعام 1970، إلى جانب القوانين الوطنية الحامية للآثار، بالتنسيق مع المتاحف العالمية الكبرى لتأمين الملكية الفكرية للآثار السودانية.
ودعا المدير السابق لهيئة الآثار إلى ضرورة تشكيل آلية تنسيقية وطنية تضم المؤسسات ذات الصلة إلى جانب متخصصين في القانون الدولي والآثار من الداخل والخارج، لإعداد خريطة طريق لاسترجاع الآثار السودانية، فضلاً عن إنشاء وحدة متخصصة للاسترداد بالتعاون مع البوليس الدولي (الإنتربول).

يوم حزين
في غضون ذلك، تعرض مبنى دار الوثائق القومية السودانية إلى أضرار محدودة في بوابتها الجنوبية الخارجية ومبنى التدريب المجاور لها، كما تضرر أيضاً جزء آخر من المبنى منفصل عن مستودع الوثائق الرئيس، وأدت الاهتزازات العنيفة إلى تهشم زجاج الطوابق العليا للمستودع.
وفي هذا الصدد، يقول المخرج التلفزيوني الطيب صديق «زرت مقر دار الوثائق القومية ووقفت على حجم الأضرار، حيث تأثرت المكاتب الإدارية فقط بالتدمير والحريق، أما مبني مستودعات الوثائق فقد تعرض لأضرار خارجية».
وأضاف، «الوثائق الورقية بحال جيده لكنها مبعثره، وقد شكل وجود المبني الإداري في الواجهة حماية للجانب المهم من الدار، رغم أن كل ما بداخله تحول لرماد». وناشد صديق مسؤولي دار الوثائق والمتاحف ضرورة التنسيق مع القوات النظامية لضمان حماية المقتنيات التاريخية التي نجت من الحرب حتى لا تضيع بالإهمال والتباطؤ.
وفي السياق ذاته، كتب المخرج السوداني الطيب صديق على صفحته في «فيسبوك»: «اليوم زرنا المتحف القومي… لم ينجُ سوى الإله السوداني الأسد أبادماك، والإله آمون إله الكبش، إله وادي النيل، والملك تهارقا، وبعض الجداريات. أما مقتنيات المتحف ومخازن الآثار، فقد نُهبت وسُرقت ودُمّرت… يوم حزين. صادق مواساتنا للآثاريين السودانيين وللشعب السوداني».
محاولات الاسترداد
من جهته، اعتبر وزير الإعلام والثقافة والآثار السوداني خالد الإعيسر في حديثه لبي بي سي أن ما حدث هو «جزء من مخطط تسعى قوات الدعم السريع إلى تنفيذه، بهدف إعادة صياغة تاريخ السودان». وقال الإعيسر إن «قوات الدعم السريع لا تستهدف فقط البنية التحتية، بل تسعى أيضاً إلى القضاء على إرث السودان وحضارته». وأوضح الإعيسر أن هناك اتصالات بدأت بالفعل مع الجهات الداخلية والخارجية، وكانت الخطوة الأولى تأمين مباني المتحف عبر الشرطة لمنع مزيد من الضياع.
و«ستبدأ لاحقاً خطوات أخرى بالتعاون مع اليونسكو وغيرها من الجهات المعنية لاستعادة المقتنيات الأثرية»، كما يقول وزير الإعلام والثقافة والآثار السوداني.
كارثة تاريخية
وصفت الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، مسؤولة المتاحف بهيئة الآثار والمتاحف السودانية، في حديثها لـ«العربية.نت»/»الحدث.نت»، ما حدث بأنه «كارثة تاريخية بكل المقاييس»، مؤكدة أن ما يقارب 90% من المقتنيات الأثرية تعرضت للدمار في واحدة من أبشع عمليات النهب والتخريب التي شهدتها البلاد. وأضافت عبد اللطيف، بمرارة وحزن، أن المعتدين لم يكتفوا بسرقة الكنوز الأثرية، بل استولوا على الذهب المحفوظ بعد تحطيم أقفاله.
وفي مشهد يعكس نية واضحة للتدمير الممنهج، عمدوا إلى إلقاء ما تبقى من القطع الأثرية على الأرض وسحقها بأقدامهم، وكأن الهدف لم يكن مجرد السرقة بل طمس الهوية ومحو التاريخ. ولم تقتصر أعمال التخريب على نهب المقتنيات بل امتدت إلى مباني هيئة الآثار والمتاحف، حيث تم تدمير الأثاث والأجهزة بالكامل، بما في ذلك أجهزة الحاسوب، في محاولة واضحة لمحو أي أثر للمؤسسة التي تعد الحارس على تاريخ الأمة.
كما كشفت الدكتورة غالية جار النبي، مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، عن سرقة الآلاف من القطع الأثرية من المخازن الرئيسية للمتحف.
وكانت صور التقطتها الأقمار الصناعية حينها، أظهرت شاحنات محمّلة بالآثار وهي تتحرك باتجاه جنوب السودان، في تطور أثار مخاوف كبيرة حول مصير هذه الكنوز التاريخية.
وفي ظل هذا الدمار الشامل، تظل التساؤلات قائمة: كيف يمكن استعادة هذه الكنوز؟ وهل ستتمكن السلطات المعنية من ملاحقة المسؤولين عن هذه الجريمة؟

« طمس الذاكرة الحضارية»
وتتزايد المخاوف في أوساط قطاع واسع من السودانيين من أن تؤدي الحرب المستمرة في البلاد إلى طمس ذاكرتهم التاريخية والحضارية، خاصة في ظل تعرض العديد من المتاحف، وليس فقط متحف السودان، لعمليات نهب وسرقة واسعة النطاق.وفي خضم هذه المأساة المرعبة ، أطلق ناشطون ومهتمون بالآثار وسم #أنقذواـآثارـالسودان في محاولة للفت أنظار العالم إلى الكارثة الأثرية غير المسبوقة التي يشهدها السودان، وللضغط من أجل اتخاذ خطوات فاعلة لحماية ما تبقى من إرثه الثقافي.
شارك التقرير