• وسط أنهار الدماء وهدير المقذوفات، وسيمفونية الأنين الحزين، ومع خيوط الفجر الأولى ولسعة برد خفيف عجز الديك عن الصياح كعادته كل صباح ليصحو النيام بأجسادهم التي أرهقها الحصار، ليناجوا رباً عينه لا تغفل ولا تنام، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، رغم أن الكثير من أبواب الرزق قد آذاها الحصار، ولكنهم رغم ذلك يثقون بربهم، أنه الرزاق الكريم.
هل صمدت الأباريق التي عبؤوها بعد عشاء البارحة لتكون حضوراً في فجر اليوم، أم ثقبتها الرصاصات وأراقت الماء، مثلما أصابت الصدور التي كانت كل يوم في هذا الوقت يتردد هزيمها والخطو يقودها للمساجد مرددة آية الكرسي، والصمد، والمعوذتين، ليغيب الترتيل، وقبل بوابة المسجد، ينهار الجسد النحيل، وتفيض غدراً روح طاهرة عطر لسانها دوماً تجويد القرآن إظهاراً وإدغاماً ومدوداً لا تغيب.
يا فاشر السلطان أصبحت كيف؟ وقلية البن والزنجبيل خالطها دخان المقذوفات، وتمزقت نياط الكيف، وحل بالقلوب والعقول وحل في طين أسمر خالطته الدماء، وأفزع ذلك الطيور والحمائم وهي تلقم صغارها حبات عيش، لتختنق صغار الحمائم فزعاً، وينقطع من أمهاتها عذب الهديل، فرائحة الموت تغلبت على سطوة الكيف بناً وزنجيلاً.
يا فاشر السلطان أصبحت كيف؟ وكجرة العريس التي كانت تفوح منها روائح المسك والصندل، هز أركانها وصم الآذان فيها صوت التفجير، والعروس التي كانت تتلفح فركة القرمصيص قد خالط سواد حنتها من النحر دم أفزع العريس.
يا فاشر السلطان أصبحت كيف؟ وطلاب المدارس تحشرج في حلوقهم نشيد العلم عندما بلغ ترداد الطلاب الأبيات التي تقول
(هذه الأرض لنا
فليعش سوداننا علماً بين الأمم
يا بني السودان هذا رمزكم
يحمل العبء ويحمي أرضكم).
وسقط بعد ذلك العلم من ساريته يلعن من مزقوه.
يا فاشر السلطان أصبحت كيف؟ والخلوة كيف؟ ولوح الشرافة انكسر في سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، وأهل الفاشر كانوا يفرحون بأبنائهم وهم يلحقونهم بالخلوة ويرددون (ولاد إتنين واحد حاضن اللوح والتاني ماسك الدواية).
لكن التتار كسروا اللوح، وفقأوا عين الصغير الحاضن الدواية، واندلق العمار، وفي رمل يلمع كالذهب خط على حباته (ليك يوم يا ظالم).
فاشر السلطان أصبحت كيف؟ والميارم متجمعات في الراكوبة لدق الريحة، والصندل مدقوق دقاق، والضفرة تتنضف بين الأصابع، وفلور دمور يرش الخلطة، تجهيزاً لزفاف الوليد الغاب وجاب للبنية الفنجرية المحبوسة من كمين شهر عشان تضوي يوم الفرح زي القمر، لكن تتار لا بيعرفوا أبشر ولا قولة يالجنيات بالخير، لكن بيعرفوا يخطفوا ورود الفرح من قلوب هيمانة بي حب كبير بالحيل.
يا فاشر السلطان أصبحت كيف؟ والدروب معبدة بجماجم الموت وريحة الدم وين ما مشيت، وقالوها قبل اليوم كثير ناس الفاشر أيام الخير (الموت ما بتوالف)، لأنهم والفوا الفرح، أياماً، وشهوراً، وسنين، وما كان في بالهم أن صقور الموت في سماهم كانت مشحونة بغلٍّ كثير بالحيل.