يا علي الهادي.. هل سيغيب كل هذا البهاء؟ 

45
لوحة
Picture of د. عبدالوهاب همت

د. عبدالوهاب همت

• في حوارات طويله ومستمرة مع قامة الفن والابداع ابراهيم الصلحي ظل يتحدث بحسره ومرارة عن تجاهل الدوله السودانيه للفنون والفنانيين ، ضارباً الأمثال في عدم تضمين مادة الرسم والفنون في المنهج الدراسي منذ سنوات طويله، وبالتالي جهل المجتمع بالثقافة البصريه، وعدم توفر صالات للعرض وإنعدام المراسم التي تساهم في نمو وتطوير المواهب. لكن الصلحي لازال مؤمناً إيماناً قطعياً بأن حواء السودان ولود بالابداع والمبدعين الذين تطول قاماتهم وبقليل من الجُهد والإهتمام يمكن أن يصلوا إلى أعلى المراقي.

من يعملون في الصناعات اليدوية الخزف والطين والاخشاب ورسم الجداريات داخل المنازل أو خارجها كل هؤلاء لايجدون من يوليهم أدنى إهتمام.

الدولة الظلامية التي أطلت بوجهها القبيح بدأت مع دروشة إمام الضلال نميري والذي عبر قوانينه السبتمبرية في العام ١٩٨٣ كانت الفنون في مقدمة الاعداء فالتماثيل تم تدميرها بشكل كامل رغم انها كانت عنوان حضارةٍ وجمال وشيئاً فشيئاً شرعنا في التدهور .

حتى على أيام الديمقراطية الثالثة كانت لحجاج الثقافة والاعلام حينها المرحوم عبدالله محمد أحمد المنتمي خارجياً لحزب الأمه ووجدانياً كان ظلامياً إخوانياً كاملاً الدسم وكان قد حاول تدمير مايمكن من تماثيل داخل متحف السودان بإعتبارها من المحرمات ، لكن الحملة المناهضة لذلك إضطرته للتراجع عن مواقفه المتخلفه وحتى يزيل الحرج عن نفسه كان أن وجه بضرورة أن يتم توجيه أوجه التماثيل نحو الحائط، بعد فشله في أن يقوم بتغطيتها بالمشمعات أو قطع الأقمشه الكبيرة. كان هذا حال الفنون ووزيرها الاول معادٍ للفن والفنون والإبداع ولو لا وقفات صلبه من الراحل المقيم بروفيسور نجم الدين محمد شريف وعدد من زملائه من المهتمين بأمر المتحف لفعل حجاج الثقافه الأفاعيل بتماثيل ومقتنيات فنيه ذات تاريخ ضارب الجذور.

وتكتمل حلقات التدمير الشامل للفنون والابداع بل وحتى الحياة العامة في السودان عندما نعق البوم في يوم مجيء ( الانقاذ) المشئوم.

فشُلت حركة الابداع وحل محلها المهووسون بأشكالهم وألوانهم والجامع بينهم هو العداء الدفين للإبداع والمبدعين. والذاكرة لن تنسى دور المرحوم الطيب مصطفى في التلفزيون السوداني وكيف أنه أدخل التلفزيون الاسلام معلناً شهادته وتوبته من رجس القديم ، وكأن التلفزيون كان مصدراً للموبقات والتفسخ والتحلل،وهذه قصةٌ طويلة لامكان لها هنا.

كلية الفنون الجميلة والتطبيقية غزاها البوم وظهرت مجموعة من الطالبات المُنقبات في صفوف الكلية والتي يقوم المنتمين إليها برسم أجساد نماذج بشرية أمامهم من الرجال الذين يرتدون مايستر عوراتهم فقط ، أما من يتخصصون في فن النحت فيقومون بتقديم منحوتات للبني آدم في أدق تفاصيل لجسده ولا أعرف كيف يجد الدُعاة تبريراً لمنهج كامل لكلية نشأت لفترت زادت على السبعة قرون.

المبدعون بشكل عام جُلهم في السودان كما يقولون ( كاسرين قيدهم) ويتصرفون بطريقتهم.

صلاح سليمان وفي فقده المُفجع مرارةٌ كثيرة عالقه وستظل في داخل حلاقيم الكثيرين وصلاح على الدوام كان يتحدث بإعجاب شديد عن عدد من المبدعين من رفيقاته ورفاقه منهم علي الهادي متحسراً على غياب وإبتعاد أمثال علي الهادي. وعلي الهادي كان كلما ورد إسم صلاح يخرج زفرات حرى وفيها الكثير من الألم ويقول (ياسلام يا اخ صلاح سليمان ده لو خلّى التواضع الكتير ده وإستفاد من غربته دي حيبقى عالمي).

جمع مابين صلاح سليمان وعلي الهادي الخفر والهدوء والتواضع والابداع بدون مراسم ولا شواطئ وكانت عوالمهما الداخليه صافيه نقيه بسيطه موغله في إنسانيتها كأنهما توأم متطابق في كل شيء وقد عشت مع كل منهما في أزمان وأمكنه مختلفه.

وهما في غمرة إنشغالهما بعدة قضايا ما أن تطرح لهما أن أمر يتعلق بالشأن العام إلا وتجدهما على أتم الاستعداد للمساعدة للمشورة والتنفيذ في الرسم والتصميم وإبداء الملاحظات الفنيه الدقيقة ولكن بكل تواضع في إختصاصٍ هما الأكثر داريةً فيه.

دار الاهالي في دمشق مؤسسة مكتملة الاركان والشوام لاينظرون لأي شخص مهما بلغت درجات إبداعه بتلك النظره التي تستحق ، لكنهم كانوا أن خروا صرعى أمام إبداعات علي الهادي ولم يجدوا مناصاً سوى بقبوله للعمل معهم وبالراتب الشهري الذي إختاره هو وفي الاقات التي كانت تُريحه وكان كلما أنتج شيئاً زادت دهشتهم وتعلقوا به أكثر وأكثر راسماً للوحات ومصمماً للمطبوعات. لكنه آثر بعد ذلك السفر نحو اليمن التي إختارها منفىً له وعمل في جامعة صنعاء قسم الوسائل التعليمية وحتى رحل بالأمس.

صلاح سليمان كان قد رسم بورتريه بقلم الرصاص على ورقة في حجم A3 لأستاذه الصلحي وأهداه للبروفيسور قلين جوردان الاستاذ في جامعةً ساوثويلز ومدير مركز بيوتاون للتاريخ والاداب في مدينة كارديف حيث ظل صلاح واحداً من أعمدة الفن والجمال في هذا المركز وذلك بشهادة اساتذة الفنون في جامعتي كارديف وساوثويلز والذين يعتبرون أن ماشاهدوه من أعمال لعدد من الفنانيين السودانيين جديرٌ الاحتفاء به. وعندما نقل صلاح لوحاته من ألمانيا إلى مدينة كارديف وشاهدها قال له البروفيسور قلين جوردان( أنت لم تحدثني عن أنك فنان ياصلاح) وعانق الأخيّر لدقائق وفي ذلك تقدير كبير لصلاح ولأعماله التي أفرد لها قلين مساحة داخل المركز .

بعد وفاة صلاح قمت بتصوير البورتريه المعني وأرسلته له بالبريد وما أن إستلمته إلا وإتصل بي وراح يُعدد جماليات ماشاهده وتفرد راسمه وتمكنه الشديد وتحسر كثيراً على صلاح وفقدانه في مثل هذه الظروف وكانت الكرونه منتشرة.

وبكلمات حزينه ممتلئه حسرةً وأسى راح الصلحي متحدثاً عن الابداع والمبدعين السودانيين وتشتتهم في بقاع الارض وكلما أكمل جملة يلحقها ( ياسلام …. ياسلام .. شوف بالله إبداع زي شغل صلاح ده).

علي الهادي الهاديء الطباع المعطون في الفن حد الذوبان رسم لوحات شامخات أرجو أن تكون محفوظةً في مكان ما . وكتب شعراً في غاية الرصانة وأجاد فيه الوصف بالكلمات كما أجاد الرسم بالريشة.

وعلي الهادي ود السرة بت علي كان مناضلاً شرساً لم يهادن ولم يساوم تعرض للاعتقال مع مجموعة من ناشطي الحركة الطلابية على ايام سلطة مايو في أيامها الاخيرة وقد حررتهم جماهير الشعب السوداني فجر السادس من ابريل ١٩٨٥.

يقول الصلحي ( مرة مشيت وزارة الثقافة لقيت السواقين خاتين واحدة من لوحاتي في صفيحه وكم حجر كدة وعاملنها تربيزة بياكلوا فيها الفول). ويصمت . وصمته مفهوم ومعلوم.

أثناء تواجد الراحل المقيم علي الهادي في دمشق كان يحب زيارة مقهى هاڤانا وهناك كان يتردد الشاعر العراقي مظفر النواب ويجلس في طاولة محددة لايجلس فيها غيره بعد الخامسه مساءً وحتى الثامنه موعد إغلاق المقهى وعندما يدخل علي الهادي يجلس مواجهاً له ويحيي كلاهما الآخر بكلمة مرحبا وفي يوم من الايام اخرج علي ورقة في حجم صندوق السجائر ورسم عليها وجه الشاعر مظفر النواب والذي لم علي الهادي وهو يدقق النظر في ملامح وجهه ، وماهي الا لحظات وكان أن قدم لمظفر هذه الوريقه التي زلزلت كيان مظفر النواب وطلب من علي ان يوقع عليها وقد فعل وهو يبتسم ،وقال له ( هذه ثاني اعظم الهدايا أتلقاها من الشعب السوداني والاولى كانت وأنا أقرأ الشعر في الخرطوم حيث الهواء الطلق عند ملتقى النيلين).

في بعض الفترات كان علي الهادي يزور قبر الشيخ محي الدين بن عربي في دمشق ، كما كان يستمتع بالتجوال أمام فندق الشام عند الأمسيات ويقول أنه يرسم في ذهنه لوحات جميله فالجمال في تلك المنطقه يأخذ بشغاف القلوب والابصار.

برع علي الهادي في رسم البورتريهات بطريقه متفردة لم يدانيه أحد وأذكر أنه تبرع بعدد من البورتريهات للشهيد علي فضل في معرض أقامه إتحاد الطلاب السودانيين في دمشق وكان ذلك مثار ملاحظات العديد من التشكيليين العرب.

تحلى علي الهادي بصفتي رهافة الحس والزكانه ، أحب أغنية لجوليا بطرس وكان يترجم هذا البيت الى لوحه صغيرة ( بنرفض نحن نموت).

وكان يردد كثيراً رائعة عبيد عبدالرحمن ( آه من جور زماني)

ويقولي لي شوف الكلام ده كويس

سهران ليلي طايل حارس بدر غايب

في آمالي سابح وبي آلامي راسب

انت الساهي لاهي وماك الحاسي حاسب.

كيف أوصف محاسنك ولحظك لي محارب

ما إستوفيت نفايلك بالوصف المقارب

شفتك مره غافل نورك جاني ضارب

أصفر أخضر أحمر زي شفق المغارب.

وكان علي الهادي يحتفظ بشريط كاسيت لهذه الاغنيه والمسجله عنده بصوت الفنانيين ميرغني المأمون وأحمد حسن الجمعه، ولايجامل بإعارة هذا الشريط مهما كانت درجة قُربك منه.

وأحب كذلك أغنية السمبلاية رائعة محجوب شريف والتي تغنى بها محمد وردي ومنها راق لعلي الهادي بيت الشعر الذي يقول ( بيني وبينك الضحكه ورحيق الشاي وحسن الظن)

أهل الفن من المبدعين من رفاق علي الهادي وصلاح سليمان وعلي الأمين وجاه الله والمرضي إبليس وعبدالواحد وراق ما أن جاء إنقلاب ( الانقاذ) إلا وان وشى بهم من قاد إتحاد طلاب الفنون في يوم من الايام ، لكنه كافأهم سجناً وتعذيباً وإذلالاً وفصلاً عن العمل ولانه خسيس ووضيع وجبان فهو لايستحق إيراد إسمه الى جانب أسماء سامقه.

حسرتنا كبيرة وتستمر يومياً ونحن نفقد اعزاء لنا جملوا لنا دنيانا بالابداع والفنون المختلفه.

حار التعازي لإبنك محمد ولأرملتك إيمان عبدالغفور توفيق ولكل أفراد أسرتك ورفاقك واساتذتك .

فأرقد بسلام وعليك السلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *