
ملامح التحول في الغناء السوداني الحديث

حسن السر - القاهرة
• أربعُ أغنياتٍ خرائد؛ غناءٌ جديد، وربما غير مسبوق الريادة، من حيث الفكرة، والبناء الشعري. شعرٌ، مازَه عن غيره السائد، دراما الحوار الغزلي والعاطفي. ولولا أن اختطف المُغنِّي أدواره، لكان أداء هذه الأغنيات (دويتتو) ـ في وقتها ـ حدثاً، وشيئاً آخرَ غاية في الواقعية والمثال.
حزنٌ قاتمٌ، ولوعةٌ أشقتْ قلوب، وأدمت مُقَل (ما شَقيتَك/ وعُوَيْنَاتِك)؛ وحوار غزلي مرح، فيه وَلَه، وفيه (كَبْكَبَة عُشَّاق) ودلال (في غفلة رقيبي)؛ وإثارة (رِحلَة في طيَّارة)؛ من أبدع ما يكون في نوعه من غناءٍ جديد آنئذ.،
سيد وعتيق، كلاهما جسر من جسور (الخَضْرَمة) الماسيَّة، التي عبرت من خلالها الأغنية الجديدة، مبنى ومعني؛ طاقةٌ إبداعيةٌ شعريةٌ متجددة وجوَّابة.
سيد عبد العزيز، شاعر مثقف، مواكب، ومتفاعل بإبداعه الشعري مع مستجدات وتطورات العصر، كثير التنوع في تناول موضوعات شعره، ولغته الشعرية الغنية الرفيعة.


(1)
في قصيدة سيد عبد العزيز/ وألحان وأداء الفنان العظيم إبراهيم الكاشف (رحلة في طيَّارة) دعوة مغرية، قدَّمها الشاعر وفاجأ بها حبيبته، لرحلة سفر بالطائرة (لجهةٍ معينة) :
• «حَبِيبِي قَلبِي حَابْ
رِحلَة بين طَيَّات السِّحاب
وحْدَنَا إنتَ وأنَا …»
وما أدراك ما السفر بالطائرة «بُساط الرِّيح المُهَاب» ـ كما وَسَمَها الشاعر ـ زمانئذ؛ ولعلها طائرة الكوميت ذات المحركات المروحية، إذ أن الأغنية سُجِّلت لإذاعة هنا أم درمان بتاريخ 9/7/1959، (كما وثّق لها معاوية حسن يس، في الجزء الثالث من سفره الضخم من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان).
خوفٌ وإثارةٌ تشدُّ الأعصابَ شَدًّ، وتُذيبُ القلوب (إقلاعاً، وهبوطاً)، خاصةً لمن يسافر على متنها أول مرة :
• «حبيبِي خَاف يُوم الذَّهَاب
في بُسَاط الرِّيِح المُهَاب …»
وعتابٌ بخطاب (لغة العيون) على هذه المغامرة المثيرة :
• «حَبِيبِي عَاتَبْنِي
وبِعيُونو كان العِتَاب
وللأحبَاب لُغَة العُيُون
أبْلَغ خِطَاب
قَال ليَّا :
ألْمَس قَلبِي دَاب
أنَا خَايِف
وانتَ شَايِف …»،
وتطييب خاطر، وتعليل، وإعجاب، ومواكبة …
• قُتُ ليهُو:
«لا تَعْمَل للخُوف حِسَاب
عُمِلَتْ ليك أسبَاب الرَّاحة العُجَاب
أحدثُ ما عَرِفَ الوجُود
أشبهُ بنَعيم الخُلود
الفِي كِتَاب
علشان رِضَاك
وعلشان تَقُول
وأقُول مَعَاك
أُنشُودَة الهَوَى والسِّحَاب …»


(2)
ومحمد البشير عتيق، في كثيرٍ من قصائده المغنَّاة، تتجلَّى، وتشفُّ، وتُشِعُّ روحه العاشقة، المرِحة، وتحلِّق أوزانه الخفيفة الرّفِيفة، بأجنحةٍ كأجنحة العصافير الطليقة، والفراش الموشى المنمَّن في الروض الفسيح، كما في قصيدته اللطيفة الجميلة «في غفلة رقيبي».
القصيدة حوارٌ غزلي فيه وله، ودلال، ومشاغلة (غزل) مرحة، وبريئة، ومهذّبة، جمعها فأوعاها في (دبلوماسية الحديث – السؤال – المحاورة) (عتيقية) معتقة، مفعمة، دفاقة، مدهشٌ سيناريوها، ممتعٌ حوارُها، بشعرٍ جَزْلٍ سهلٍ ممتع ممتنع :
• (في غفلة رقيبي
رُحتَ أزور حبيبي
لقيتو شوية حاسِّي
ضاجِع في سريرو
متوسِّد وثيرو
بين طيَّات حريرو)
«حيّيتو وجلستَ
من حُسنو اختلستَ
في سحرُو انغمستَ»
قت ليهو :
(في جمالك سحروك
ولا ما لك؟!
صار يا حبيبي لونك
فاتر زي عيونك)
قال لي :
«عندي حُمَّى
وبيَّ صُداع ألمَّ
من أثر انتكاسي
اِتعذَّر نعاسي
ولي يومين أقاسي …»
قُت ليهو :
(في وسامتك
وحلاوة ابتسامتك
كفّارة وسلامتك
وألف عزيز كرامتك
يا الحافظ كرامتك
مهما كنت قاسي
أو لي عهدي ناسي
ليك يزداد حماسي)
قال لي :
«إنتَ عاقل
وما في لزوم تشاغل
وأنا في روحي شاغل»
قُت ليهو :
(إنتَ روحي
وإنتَ سبب جروحي
وإنتَ لشعري موحي
يا روعة جِناسِي
يا حبِّي الأساسي
يا النَّسيتني ناسي)
عتيق إنسانٌ متواضع، وشاعرٌ متفرِّد، متوهِّج الموهبة، مشبوب العاطفة، رشيق التعبير، حيي، رقيق المشاعر، متصالح مع نفسه، وشعره، والناس.


(3)
أغنية «ما شَقيتَك»، المُلتاعة الحزينة، لخضر حسن سعد/ وحسن سليمان «الهاوي»، هي نتاج إبداع «مدرسة الخرطوم» الوترية في الغناء.
والأغنية من ألحانه وأدائه في أربعينيات القرن الماضي. وتقول الرواية إنها كانت محسوبة أن يغنيها الفنان حسن عطية، أحد روّاد غناء مدرسة الخرطوم وأساطينها : خليل فرح، عبد القادر سليمان ـ شقيق حسن سليمان ـ العوّاد الماهر، الذي تعلّم على يديه شقيقه حسن، وحسن عطية، وربما خليل فرح، وسعدية العوّادية، العزف على العود.
طلب الفنان حسن سليمان من ابن حيه وصديقه حسن عطية التنازل له عنها، وعوّضه بالأغنية الشهيرة «محبوبي لاقاني» لحميدة أبو عشر.
ووضع «الهاوي» لها لحنها وأدّاها بما عُرِفت به وذاعت.
أبرز ما في هذه الأغنية العاطفية النائحة، وجديدها، مقطعها الحواري الحُزَيني :
• (ما الخِضَاب الحنَّن يداكِ؟
-وما الإِبَار الدقَن شفاكِ؟
هل خطيبًا طالب يداكِ؟
ولا زينك قلبُوه شين؟ …)
-»الخضَاب الحنَّن يدايا
والإِبار الدقن شفايا
ما خطيبًا طالب يدايا
كفِّي تمسح صُبحي ومسايا
ذاك أثر البُكا يا منايا
بِئس حالي بين الأنام …»
هذا المقطع الشعري قريبٌ جداً ـ أثراً ومعنى ـ من حوارية ابن الملوح الذائعة «بنان العامرية»، مناجياً ليلاه :
• (ولمّا تلاقينا على سفح رامةٍ
وجدتُ بنانَ العامِريَّةِ أحمَرَا
فقلتُ : خضبتِ الكفَّ على فِراقنا؟!
فقالت : مَعاذ اللهِ، ذلك ما جَرَى
ولكنني لمَّا وجدتُك راحلاً
بكيتُ دماً حتى بللتُ به الثَّرَى
مسحتُ بأطرافِ البنانِ مدامِعي
فصار خضاباً في اليدين كما تَرَى)

(4)
أما «عُوَيْنَاتِك»، الأحدث، لغة، وميلودية، وموسيقى، وتوزيعاً أوركسترالياً، فهي ‘حوارية’ ميلودرامية بالغة التَّوجع، قاتمة في حزنها، ونواحها، ويأسها، وعذابها!
(ولهذا السبب، تعللت لجنة النصوص برفضها إجازتها ـ شعرًا ـ للفنان الموسيقار محمد الأمين!)
وغنّاها، فرسَخت وخلُدت.
وعنها ما جاء على لسان شاعرها الراحل د. مبارك بشير، قال :
«كانت وليدة مصادفة مدهشة، وجدها الموسيقار العظيم في دفتر صغير لمحاولات التجريب بالعامية، التي ألجأ إليها أحيانًا… كانت القصيدة باسم (حوار)، مودعةً بطرف الصديق الشاعر الراحل عمر الطيب الدوش. فاجأني محمد الأمين بتلحينها والعمل على تحويلها إلى أغنية، في بداية دراستي الجامعية، عقد السبعينيات. كنت، ولا أزال، عاشقًا مستدامًا لإبداع وردي ومحمد الأمين… أعتبر نفسي مستمعًا جيدًا لغنائهما، فأصبحت ـ بقدرة قادر ـ أحد شعرائهما «غير الراتبين».»
• أقول ليها:
«عُويْنَاتِك ..
تُرَع لُولِي وبِحَار يَاقُوت
مَنَاحَات رِيدٍ حَزَايِنِيَّة
بغَازِل فِيهَا مَأسَاتِي
وفي شَرَف العُبُور ليها
بمُوت، وأكسر شِرَاعَاتِي»
تقول ليَّا:
«غُنَاكَا حَزِين ..!»
«غُنَايَا حَزِين ..!؟
وأنا الوَاهِب قَصَايدِي البَاكية للفَرحَة
أنا البَهديها شَالْ رِيدي
وصِبَايا طَرْحة..!؟»
أقول ليها:
«عُويْنَاتِك دِيَار وَعْدِي
مُسَوَّرة بى جِدَار صَمْتِك
عَذَابِي مَعَاك
بَرِيدِك قبل ما أعرِفِك
ولو بقدر أشيِل من الزَّمن وَقتِي
بمُوت في لحظة
وأوهِب ليك عَقَاب عُمرِي
ولو أقدَر أسَافِر
في بَرِيق لَحظِك
وما أرجَع …»
تقول لي:
«خَايْفَاك بُكرَة تِتوَجَّع …»
«وأتَوَجَّع …»
شارك المقال