وساوسٌ وتَوَجُسٌ وهَوَاجِسٌ

240
نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتبة روائية

• أُعاني من القَلَق. شُعورٌ مُفرِطٌ يجعلني أُهَزُّ جَفْنَ نُعاسٍ أُغْرِيتُ فيه جَفني لعِناق، أنهضُ منه فَزِعةً، فالقَلَقُ أثارَ مَخاوِفي كعادَتِه.

هل أغلقتُ أُنبوبَةَ الغاز؟ أَخشى أن يتسرَّب فيهلكنا ونحن نيام، وهكذا أَسوقُ خُطواتي المُتردِّدة إلى المَطبخ.

وماذا عن بابِ الحَمّام؟ هل هو مُوصَد؟

تَبًّا لِعِلمِ الطاقةِ الذي وجدتُ فيه أنَّ الطاقةَ السالبةَ تَنبعِثُ من بابِ حَمّامِنا المفتوح!

وأَسوقُ خُطواتي إلى سَريرٍ دافئٍ، فَبَردُ الغُربةِ لا يَحتمله جَسَدٌ أنهكه شَوقُ البلادِ العَنيدة، وأتدثَّرُ في جَسدي، وأُراوِغُ النُّعاس، فيَستيقظُ القَلَق.

تُرى، هل يُوجَد لُصوصُ لَيلٍ في هذه البلاد؟ وماذا إن جاء أحدُ السارقين إلى بَيتِنا؟ أنهضُ من جديدٍ لأطمئنَّ على قَفْلِ البابِ والنوافِذ، وأُقسِمُ أنها المَرّةُ الأخيرةُ التي أنهضُ فيها، فأجوبُ البيتَ بذاتِ القَلَق، وأتعمّدُ تجاهُلَ سُخريةِ أُمّي، فهي تَصفُني بالعَجوزِ كُلّما لمَحتْ أصابِعي تَتَحسّسُ مَفاتيحَ الإضاءة.

وجَلستُ في رُكنٍ قَصِيٍّ. لم أَصنَعِ القَهوةَ خَوفًا من أن يُحدّثَني قَلَقي أنَّ أُنبوبَةَ الغازِ لم أُحكِمْ قَفلَها.

وصِدقًا، أنا بحاجةٍ إلى النَّوم، غير أنَّ كَلِماتِ أُمّي طَرَدَتْ ما تَبقّى من حِيلةٍ أُجَرْجِرُ بها جَفني إلى النُّعاس.

أخذتُ المِرآةَ، طالَعتُ وجهي كأنّي أراه للمَرّةِ الأُولى! تَفحّصتُ خُطوطَ جَبيني، والهالاتِ السَّوداءَ النَّائمةَ تحتَ جَفنيَّ الشَّاردَيْنِ نُعاسًا.

أصابَني القَلَقُ من مَشيبٍ احتلَّ خُصلاتي السَّوداء، وشَعري القَصيرُ صار أشبهَ بمِكنسةِ السَّقف، مَنكوشَ الاتّجاهات. طَمأنتُ حالي بابتسامتي، وَحدَها ما زالتْ كعَهدِي بها… جَميلة.

وزادَ قَلَقي حينَ حَسَبتُ دَقائِقَ وأيّامًا وشُهورَ غُربةٍ، فَزِعتُ من عَدّادِها. قُرابةَ عامٍ لم أُصادِفِ النِّيل، لم يُوقِظْني صوتُ بائعِ الخُضارِ الذي كنتُ يوميًّا أسبُّ صِراخَه. لم أَقِفْ على نافِذَتي أُطالِعُ شارِعَ بَيتِنا والمارّة. لم أَصرُخْ في وجهِ جارِنا المُلتَحِي : «مَدَنيًّااا!»

لم أَنَمْ منذ ذلكَ الوَقت، ولم تُبارِحْني الهُمومُ منذُ أن رَحلتُ عن بلادِ الحَنين.

وعادَ القَلَقُ يَسألُني : هل تَفتقِدُني الشَّوارِع؟

تُرى، كيف حالُ أَهلي؟ وماذا يَفعَلونَ في بلادٍ صارَ فيها كُلُّ شيءٍ حارِقًا .. حتّى الهَواء؟

تَمادَيتُ في التَّخَيُّل، ولَعَناتي تَزدادُ كُلّما تَذكّرتُ حاكِميها،.وفَجأةً! لمحتُ وجهي بتلك التَّكشيرة، وعرفتُ حينَها مِن أينَ جاءتْ خُطوطُ جَبيني.

وقبلَ أن أتمادى في أسبابِ شُحوبي، أَخذتُ هاتفي، أَدرتُ أرقامَ شَقيقَتي البَعيدة، أَقلقتُ مَضجَعَها. وبخوفٍ وَجِلٍ سألَتْني عن والدي، وبخوفٍ سألْتُها :

هل أَحكمتِ قَفلَ الباب؟ فهناكَ لُصوصٌ يَجوبونَ الطُّرُقاتِ نَهارًا، أَخشى أن يأتوا لِبَيتِنا لَيلًا.

لم أَسمعْ بَقيّةَ حديثِها، لكنّي سَمِعتُها تَصرُخُ غَضبًا أنَّ السّاعةَ الآنَ الثّالثةُ صباحًا، وأنّي أَفزعتُها باتّصالٍ لا شيءَ فيه سِوى أني مَجنونة، وأقسمتْ أن تُضيفَني إلى قائمةِ الحَظرِ إن سَوَّلتْ لي نَفسي مُكالمتَها في وقتِ نَومِها.

نَظرتُ إلى السّاعةِ، خَجلتُ من فِعلتي، وأَردتُ الاعتِذارَ لها، وفعلتُ.

وباختصارٍ هَمَسَتْ لي : (نامي لِتَرحمينا).

وقبلَ أن تُكملَ حديثَها، سَألتُها عن بابِ الحَمَّّام،

ولم تُمهِلْني لِسُؤالِها عن اللّونِ الذي سَتَدهِنُه بهِ لِهذا العيد، وتمَّ حَظري.

ضَحكتُ من فِعلتها، وهَمْهَمتُ لنَفسي :

لا شيءَ أَقسى من القَلَق، شُعورٌ أُحاوِلُ التغلُّبَ عليهِ بِمُحاوَلاتٍ لِتَحاشي سُؤالٍ لا إجابَةَ له : «متى أعودُ إلى دِياري؟ وكيف سَأُقابِلُها؟»

تُرى، مَتى تُغيِّرُ ثَوبَها لأَخضرَ باهٍ يَكسوها جَمالًا ونضرةً، بَعدَ أن رَوَتها دِماءٌ زكيّة؟

لا شيءَ أَقسى على الإنسانِ القَلِقِ من التوجُّس، والأُمنياتِ التي من حَلاوتِها نَخافُ منها.

و.. هل تَرَكتُ شاحِنَ هاتفي مُعلَّقًا في وجهِ مِقبَسِ الكَهرباء؟!

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *