

بقلم : محمد بوحاشي
• تتألف الرواية من 230 صفحة موزعة على أربعة فصول، كل فصل يتضمن عناوين فرعية مرقمة ذات صلة بتاريخ محدد. هي إشارات اختزالية مكثفة لمحتويات ومضامين هذه الفصول، لها وظيفة فنية، بيداغوجية وديداكتيكية، بحيث تضع القارئ والمتلقي في سياق مجريات الخطاب السردي وبنائه القائم على الأحداث والوقائع والأفعال والتصرفات. ما يميز هذه الرواية أنها غنية زاخرة بالتيمات والإشكالات والمعارف من كل نوع وصنف: الأنثروبولوجي، التاريخي، الديني، الفلسفي، وغيرها، إلى جانب تنويع الفضاءات وكثرة الشخوص وزخم التفاعلات وتوظيف الحوار والمونولوج والوصف والمسرود الشعري، في منعطفات ومنعرجات ثم تخريجات على قدر كبير من الأهمية.

تتبلور الأحداث والعلاقات في فضاءات عديدة أغنت الرواية وطبعتها بالمتعدد المختلف مكانا وزمانا، فانتقال الأحداث بين مكناس وتركيا وسوريا ومكسيكو، وحركية الأشخاص وتفاعلاتهم سلبا وإيجابا أنتج مفاجئات وإدهاشا فنيا يشد القارئ ويحفزه على مزيد من القراءة والتأمل والتأويل، سيما أن الرواية كتبت بلغة عميقة تكشف النقاب والأقنعة التي تتدثر بها الأشياء والموجودات والظواهر وتحللها وتضعها على المحك في إطار مفارقات وتقابلات وتشاكلات وتناظرات، ثم تدفع بها نحو مآلات في طرق تعرف وجهتها في سياق تفاؤلي بعيد عن كل عدمية وقدرية عمياء. واطلاع الساردة الضمنية على الأنثروبولوجيا، وإدراجها لحضارات وثقافات المغرب بشكل ينم عن اعتزاز بالهوية الذاتية وبالتراث المادي واللامادي وبالثقافة والتاريخ والحضارة، أضف إلى ذلك أنواع المسارات في صلب السرد، واللغة الصافية النقية السلسلة، وأشكال التخييل والتصوير والتناص مع شعراء وفلاسفة ومفكرين كبار أمثال جلال الدين الرومي، كل ذلك يجعلنا ندرك أن لا شيء ترك للارتجال أو التلقائية، اذ كل عنصر في مكانه المناسب في إطار تسلسل رائع يسير في اتجاهات متنوعة لكنه لا يخطئ المسار الذي ينبغي اتباعه، إلى أن يفضي بنا إلى كيف أن عمليات بناء الذات والأوطان تمر بالضرورة عبر تحصيل العلم والمعرفة، حيث الكل يعي أدواره ومسؤولياته في هذا البناء المشترك. والرواية هاته أدركت ذلك جيدا، إذ مما لا شك فيه أن الوظيفة المعرفية تنضاف إلى الوظيفة التربوية والبيداغوحية لترسخ أثرها في المتلقي الذي عليه أن يعي أن الفوضى والعشوائية والجهل والاستلاب والأمية أعداء البناء والتقدم. يبرز هذا في مسارات الشخوص، خصوصا وحيد وسعيد، والتي انعرجت من حياة التيه والفوضى والجهل والاستلاب والعنف الفردي والجماعي والعمى الفكري والثقافي والوجداني والسلوكي، إلى اختيارات ذات قصدية واعية، أفضت بهما إلى علاقات وآفاق مغايرة إيجابا، وهي اختيارات وانتقالات تجلي الرؤيا الفنية والإنسانية القيمية لكاتبة الرواية، رؤيا قوامها التفاؤل. فبوضعها الشخوص أمام اختيارات مبنية على أساس الوعي والحرية والمسؤولية، مكنت الكثير منهم من الخروج من الطرق الموحشة والمظلمة، ومن العلاقات التي يقودها الجهل والعنف وركوب الأهوال، إلى سبل السلم والسلام والوئام وحب المعرفة والاطلاع والتعاون البناء، وهذه هي الآليات اللازمة والحقة لبناء الإنسان فرديا ومجتمعيا، بعيدا عن أي طريق محفوف بالمخاطر والخوف والفزع والرعب والعنف المؤدلج. في الفصل الأخير(الرابع) تحت عنوان فرعي «سمفونية السلام « دار حوار بين الأخوين وحيد وسعيد وبين سمية صديقة كنزة طليقة أبيهما سليمان:
والآن ماذا تنويان أن تفعلا؟
بادر وحيد إلى القول:
سأعود إلى دراستي، تعلمت أنها هي السبيل لبناء ذاتي، وبناء ذواتنا هو الجهاد الحقيقي الذي يستحق أن نخوضه بكل ما نملك من قوة وعزيمة وصدق وإخلاص، لو انخرط كل فرد منا في الجهاد لأجل تكوين نفسه بالتعلم ثم التعلم ثم التعلم لانحلت جل مشاكلنا (…) سأضع يدي بيده (يقصد سعيد)، ومعا نتغلب على صعاب الحياة، أليس كذلك أخي؟ (ص. 225)
في كل فصول الرواية، يتدفق السرد بشكل يوحي بفوضوية العيش والعلاقات والتفاعلات انطلاقا من سمفونية الفوضى انتهاء إلى سمفونية السلام، وهو ما يمنحها نسقيتها وتناغمها؛ والتناسق هو الجمال كما يقول راسين. هذا إضافة إلى كثير من التغريب والتعجيب اللذين يعدّان مصدرا آخر لجمالية السرد كما يرى أندري بروتون. فالرواية تجلٍّ ناجح لزخم فني سردي مليء بالمفاجئات والأحداث المبهرة، أحداث يسافر بها الشخوص في فضاءات زمكانية متنوعة، غير أن بؤرتها الباطنية هي تفاعلات إنسانية كمياؤها حيوات شخوص في بيئة ثقافية خاصة تتأسس على تمثلات ومكتسبات ثقافية شكلت شخصياتهم لتعكس تجارب وتصورات وانتظارات وأهدافا تتعامل معها الساردة الضمنية من خلال رؤية فاحصة يقودها النقد الفني البناء. فما هي المعطيات والعناصر التي ينبني بها الجمالي والدلالي في الرواية؟
إن الفصل بين الجمالي والدلالي هو مجرد فصل منهجي ليس إلا، ما دامت جمالية الخطاب الروائي تتشكل منهما معا في تداخل وتكامل وانسجام. لذا، نختصر فنقول إن الرواية زاخرة بالتخييل والتصوير والتناص والرموز وأشكال من العدول والانزياحات المولدة لزخم من الإيحاءات والدلالات المستشفة من خلال التأويلات، تعضدها أساليب تركيبية تستعمل اللغة فيها سلسلة متناسقة متماسكة ورائقة، كما تعضدها شعرية وشاعرية نابعة من أشكال الوصف والحوار الداخلي والخارجي، ونابعة من طبيعة السرد النثري في الرواية كما من المسرود الشعري الذي يزدان به السرد، ومن الرؤيا السردية الإيجابية والمتفائلة الناقدة والفاحصة والحالمة قريبا من الكائن وتجاوزا له نحو الممكن، كما من أفاق انتظار يتجادل فيها الكائن والممكن، يرتقي من السلبي والفوضى والجهل والعنف إلى البناء الإيجابي القائم على العلم والعمل الفردي والجماعي.
هكذا إذن ترتقي الرؤيا السردية بزخمها الدلالي الذي تجليه كثافة التيمات والوقائع والأحداث والتقابلات، خاصة التقابل المحوري بين نمط عيش وتفكير وعلاقات تمثلها عائلة سليمان وبين نمط مغاير تمثله كنزة وصديقتها سمية. نمطان يتبديان في تقابل صراعي ستنتصر فيه رؤيا الطرف الثاني، وهي رؤيا سوسيو_ثقافية قيمية تستشكل نقديا وبقصدية واعية أشكال القبح المستشرية، وتعمل على تصعيدها (sublimation ) نحو الأحسن والأفضل. هو تصعيد يتوخى الصعود والارتقاء، آخذة في الاعتبار جدلية الصعود والنزول. كل ذلك داخل خطاب سردي روائي منفتح متثاقف وبيداغوجي شيق وماتع وعميق يعلي من القيم المعرفية والانسانية النبيلة.
شارك المقال