
معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• في دروب الحياة الطويلة يتوه القلب أحياناً ويُثقل بالذنوب، وتُعميه ظلال الشهوات وأوحال الغفلة.
يمضي العمر والإنسان يركض ولا ينتبه إلا حين يستوقفه التعب في منتصف الطريق، فيرفع رأسه وقد أضناه البُعد.
ليكتشف أن الله كان ينتظره طوال الوقت.
لم يبتعد عنه، ولم يغلق بابه، ولم يقل له تأخرت..!
هذا الإحساس العميق والباكي، الرقيق، هو ما يتسلّل إلينا من بين أبيات قصيدة مولانا الشاعر الإنسان القاضي. عبد الإله زمراوي. قصيدة ليست كأي قصيدة؛ بل هي همسُ قلبٍ مكلوم، خجول، مُحب، وقف على أعتاب العفو الإلهي يطلب الصفح، لا بقوة البيان، بل بصدق الدمع، لا بعلو الصوت، بل بخشوع الرجاء.
يبدأ الشاعر بنداء يقطر خجلاً:
«إني عصيتُ الله دهراً، ما قسا ربي الرحيمُ، وما جفاني..!»
يا لها من جملة تهزّ القلب، ليس فيها تباهٍ ولا تعالٍ؛ بل وقفة صادقٍ يواجه ذاته ويعترف: نعم…
أخطأتُ وأطلتُ الغفلة، ولكنني ما وجدتُ من ربي إلا الرحمة.
لم يُقابل ذنبي بالقسوة؛ بل بالحِلم، ولم يعاجلني بالعقوبة؛ بل بالستر.
ويعود ليقول وحنينه يغلبه:
«إني عصيتُ فما رماني في الجحيم، ولا قلانِي..!»
أي عظمة هذه..!؟
إننا أمام ربٍ عظيم وحنون، ويغفر قبل أن يُعاتب، ويستر قبل أن يُحاسب، ويفتح صدره لعبده العائد وإن تأخر.
ثم تفيض الكلمات نوراً:
«ما عصيتُك طائعاً إني أعوذ بنور وجهك من أذى الشيطان..!»
كم منّا قد سقط وهو يقاوم، ضعفت نفسه، وزلّت قدمه، ولكنه ما أراد المعصية؛ بل أُغري بها ثم عاد خجلاً.
الذي لا يبرر بل يستعيذ ويلجأ ويهرب إلى النور.
«منذ أن أوجدتني آويتني، أغنيتني، وهديتني، ووهبت لي من نور وجهك ما كفاني..!»
هنا تتجلى العظمة الإلهية، علاقة ملؤها الحنان واللطف، والرعاية الخفية.
كأن الله يربّت على قلب عبده في كل لحظة، ويُنقذه دون أن يشعر، ويُطعمه دون أن يسأل، ويهديه دون أن يدري، وثم يغفر له إن عاد.
«نورٌ على نورٍ»
عبارة قرآنية، لكنها هنا ليست آية فقط؛ بل حياة.
فكل لحظة هداية هي نور، وكل رحمة تُغشى القلب نور، وكل دمعة توبة تُضاء بنور، حتى تُصبح الحياة نفسها شعلة مضيئة لا تعرف العتمة.
ثم تأتي ذروة الرقة حين يقول شاعرنا:
«كم وددتُ مديحك المعصوم لكني شُفيتُ بنبع اسمك إذ رواني..!»
ما أبلغها…!!
ليس الشفاء في الكلام؛ بل في الذكر، وفي الحنين، وفي ترديد العاشق لاسم الله جلّ جلاله.
في صمت التائب حين لا يجد ما يقوله سوى «يا الله»، وكل حرف منها دواء، وكل تنهيدة دعاء، وكل نظرة إلى السماء رجاء.
ويختم الشاعر بما لا يُختتم بعده:
«دمعة من تائبٍ يرجو اللقاء، يلوذ بالقرآن..!»
دمعة خفية ربما لا يراها أحد، ولكنها تفتح باباً في السماء، وتصنع طريقاً إلى الجنّة، وتُعيد إنساناً من الضياع إلى حصن الله الرحمن الرحيم.
فيا من سافرت بعيداً عن ربك، وضيّعت سنينك في التيه، لا تظن أن الحُبّ انتهى، أو أن الباب قد أُغلق.
الله لا يُغلق بابه، والله لا يملُّ إن مللت، ولا يردك إن جئت.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
هو الذي يُمهل لتعود، ويشتاق لك وأنت بعيد، ويستقبلك بنور لا يُوصف إن بكيت مرة وإن رجوت بصدق.
قصيدةٌ ليست كغيرها؛ بل نجوى عبدٍ لجأ إلى مولاه، وبوحُ روحٍ تائبة ارتمت على عتبات النور، واحتضنت القرآن كمن يحتضن الحياة من جديد.
فهاكم كلمات مولانا الشاعر الإنسان سعادة القاضي عبد الإله زمراوي التي تجلي أرواحنا وتبكينا بلطفها.
إني عصيتُ الله دهراً
ما قسا ربي الرحيمُ
وما جفاني.!
إني عصيتُ فما رماني
في الجحيمِ ولا قلانِي.!
سبحان ربي
ما عصيتُك طائعاً
إني أعوذُ بنورِ وجهِكَ
من أذى الشيطانِ.!
سبحان لطفك
منذ أن أوجدتني
آويتني، أغنيتني، وهديتني
ووهبت لي من نور وجهك
ما كفاني.!
نورٌ على نورٍ
يضيء، يشعُّ للكونِ
الذي كلٌّ يسبِّح فيه
من أزمان.!
سبحان ربي
كم وددتُ مديحكَ المعصومَ
لكنِّي شُفيتُ بنبعِ اسمك
إذ رواني.!
سبحان ربي
دمعةٌ من تائبٍ
يرجو اللقاء
يلوذ بالقرآنِ.
محبتي والسلام.
شارك المقال