هل نستفيق قبل أن تغلق الأرض أبوابها؟

52
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• في سودان ما بعد الحرب، لم تعد التنمية ترفًا مؤجلًا، بل أصبحت شرطًا للبقاء. والمفارقة المؤلمة أننا في كل مرة نواجه أزمة، لا نفكر إلا بعد أن تنضب الخيارات، ونبدأ بالتحرك بعد فوات الفرص. 

هذا بالضبط ما يحدث اليوم مع الذهب السطحي، الذي يجري استنزافه عبر التعدين العشوائي بوتيرة جنونية، دون تنظيم أو تخطيط. ومع مرور الوقت، سيختفي هذا المورد السهل، وسنُفاجأ بأن ما تبقى من ذهب يوجد في أعماق تحتاج إلى تكنولوجيا معقدة وتمويل ضخم لا نملكه، لأننا ببساطة اعتدنا رؤية السطح فقط، ونفكر في العمق فقط عندما نصل حافته. عندها فقط سنبدأ نسأل: ماذا بعد؟ والجواب يجب أن يُطرح الآن، لا لاحقًا، لأن الفرصة المتبقية أمام السودان ليست في باطن الأرض، بل في ثروته الزراعية فوق الأرض.

السودان يملك تنوعًا زراعيًا نادرًا، ومساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، ومحاصيل لها ميزات نسبية حقيقية في الأسواق العالمية. لكن القيمة المضافة لهذه المحاصيل لا تُخلق في الحقل، بل في المصنع. ومن هنا تبرز ضرورة تطوير الصناعات الزراعية التحويلية كأحد أهم مفاتيح إنقاذ الاقتصاد السوداني، وإعادة بنائه على أسس إنتاجية مستدامة. صناعة استخلاص ألياف الموز، مثلًا، تمثل نموذجًا بسيطًا، لكنه شديد الدلالة. فالموز، الذي كانت تجربته في السودان محصورة في مناطق مثل النيل الأزرق وجنوب الجزيرة وبعض أطراف دارفور، أثبت نجاحه كزراعة استوائية يمكن التوسع فيها، خاصة وأن السودان يملك المناخ والتربة المناسبة لذلك. لكن ما لا يعرفه كثيرون هو أن سيقان الموز، التي تُعتبر مخلفات، يمكن تحويلها إلى ألياف تدخل في صناعة الورق العضوي، النسيج، الحبال، منتجات التعبئة، وحتى بعض مكونات السيارات البيئية.

حجم سوق ألياف الموز عالميًا يُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا، وتزداد وتيرته مع توجه العالم نحو الصناعات البيئية والمواد المستدامة. في الهند والفلبين، على سبيل المثال، باتت ألياف الموز تُستخدم في صناعة منسوجات فاخرة تُصدّر لأوروبا، ويتم إدخالها في ملابس رياضية صديقة للبيئة، ومواد تغليف فاخرة، بل وحتى منتجات تجميل طبيعية. السودان يمكنه الدخول في هذا السوق من أوسع أبوابه، ليس فقط من خلال زراعة الموز، بل أيضًا عبر محاصيل أخرى يُمكن الاستفادة من مخلفاتها بالمنهج نفسه.

لدينا القطن، وليس فقط البذور أو الألياف، بل حتى السيقان يمكن تحويلها إلى ألياف صناعية ومواد عازلة. الذرة، التي تنتج في ولايات مثل القضارف والجزيرة والنيل الأبيض، يمكن استخدام سيقانها في إنتاج ألواح خشبية مضغوطة وسماد عضوي، بالإضافة إلى استخدام الحبوب نفسها في صناعة النشا، الإيثانول، والأعلاف المركبة. السمسم، الذي يُعد أحد أشهر صادرات السودان، لا يقتصر على الزيت فحسب، بل يمكن تصنيع الطحينة والمستحضرات التجميلية منه. الفول السوداني يمكن تحويله إلى سكاكر ومعجنات ومشروبات طاقة، بجانب إنتاج الزيت والكُسب. وحتى بقايا زهرة الشمس يمكن الاستفادة منها في صناعة الصابون العضوي والوقود الحيوي.

الاقتصاد الدائري وسلاسل القيمة الزراعية ليسا مجرد مفاهيم نظرية، بل حلول عملية تقود إلى خلق وظائف، وتقليل الفاقد، وتعظيم العائد. كل محصول ينتجه السودان اليوم يمكن أن يتحول إلى نواة لصناعة كاملة، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والدعم المؤسسي. بل أكثر من ذلك، يمكن زراعة محاصيل جديدة تتماشى مع هذا التصور الصناعي، مثل الجاتروفا لإنتاج الوقود الحيوي، أو الكينوا كحبوب غذائية عالية القيمة، أو نباتات ليفية كالكنب والجوت التي تُستخدم في التعبئة والتغليف. السودان يملك مناخات متعددة يمكن زراعة هذه المحاصيل فيها، وخلق منظومة صناعية متكاملة حولها.

لكن أي تحول من هذا النوع يحتاج إلى مدن صناعية زراعية، تكون قريبة من مناطق الإنتاج، لتقليل تكلفة النقل وتعظيم الفائدة المحلية. يمكن بناء مدينة صناعية في سنار مختصة في الذرة، وأخرى في القضارف لمعالجة السمسم، وثالثة في الجزيرة للنسيج والقطن، ورابعة في دارفور للصناعات المرتبطة بزهرة الشمس والموز. وما يجعل هذا التصور أكثر جدوى الآن، هو أنه يمكن طرح هذه المدن كمشروعات قومية، تُدار بشراكات ثلاثية بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمعات المحلية.

والأهم من ذلك أن تطرح الدولة هذه المدن الصناعية بالأقساط للمواطنين، كنوع من التعويض الحقيقي عن الخسائر التي تكبدوها خلال الحرب. فبدلًا من الإهمال الرسمي الذي لا يذكر الضحايا ولا المتضررين لا من قريب ولا من بعيد، يمكن فتح باب الاستثمار الصناعي أمامهم، ومنحهم الفرصة ليكونوا جزءًا من نهضة اقتصادية شاملة. يمكن للدولة تخصيص أراضٍ داخل هذه المدن الصناعية للمزارعين الشباب وأسر الشهداء والنازحين، وتقسيطها على مدى 10 سنوات مع دعم فني وتمويلي.

إن الوقت الحالي هو لحظة حاسمة، إما أن نعيد فيها بناء اقتصادنا بيدنا، أو ننتظر حتى نُفاجأ أننا فقدنا كل ما فوق الأرض، ولم نعد نملك ما نُخرجه من باطنها. الذهب السطحي سينتهي، والموارد السهلة لن تبقى، لكن السودان سيظل يزرع، وسيظل غنيًا بمحاصيله، وخصبًا بأرضه، والفرق الوحيد بين الركود والانطلاق هو كيف نُدير هذه النعمة: هل نبيعها خامًا بثمن بخس، أم نصنعها ونصدّرها بثقة وكرامة وقيمة مضافة؟ هذا هو الخيار الحقيقي أمامنا الآن، لا غدًا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *