هكَذا يَمْضِي الوَقْتُ .. (لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً، وَفَعَلْتُ كُلَّ شَيء!!)
Admin 27 سبتمبر، 2025 22
سارة عبدالمنعم
كاتبة روائية
• أُقْسِمُ بِاللهِ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً. كنتُ أُمضي في دُرُوبِ صمتِي، في عُزلتِي الطويلة؛ لَمْ أَقرأْ فيها، لَمْ أَكترِثْ لِلشُّرُوق كيْ أَصنعَ فاصِلاً إِعلامياً في برنامجِ حياتِي الْمُعتادة؛ أُحدِّثُ فيهِ جسدِي عن اسْتِغلالِ الشُّرُوقِ من أَجلِ رُوحِ شَمسِ الصَّباحِ الدَّافئة. لَمْ أَقضِ الوقتَ في فِعلِ شيء، وفعلْتُ كُلَّ شَيء. سهِرتُ كثيراً، وغالباً ما نِمْتُ باكراً. شاهدتُ أَفلاماً ومُسلسلاتٍ لا تُحصَى، سمِعتُ قصصاً أَقلَّ. مبارياتُ كُرَةِ القدم — التي سامَحَ اللهُ أَبي لِرَبْطِ شغفِهِ بمشاهدتِها — كانت مُستفِزَّةً لي بحركتِها؛ أَبِي الذي لا يَمَلُّ الحديثَ عنا، صار عمداً يتجاهلُ وجُودِي، وحواسُّهُ صوَّبَتْ شاشةَ التَّفاعُلِ مع تلكَ المُباراةِ حينَ كانت عافِيَتُهُ مُلْتَزِمَةً بجِوارِي، وصرتُ الآنَ شبِيهَتَهُ فِي تلكَ الفعلة.
أُقْسِمُ أَنِّي رَتَّبتُ حَالَ رُوحِي جيداً، كما خِزانةَ ملابِسي وحقائِبي الصغيرةِ وأَحذِيَتِي. أُمِّي، حينَ تَرَى ذلكَ النَّشاطَ تُبَجِّلُنِي دونَ مباشرةٍ؛ تهَمْهِمُ بِالصَّلاةِ على النَّبِيِّ وتذكُرُ اللهَ في مشيئتِهِ، مُبارِكةً لهذا النِّظامِ ونتائِجِهِ اللَّطِيفة. لماذا لَمْ أَقُلْ لها إِنِّي فتاةٌ مُطِيعَةٌ أَحياناً؟ ووجبَ عليها قَولُ ذلك؛ فهناكَ طِفْلٌ يسكنُنَا لا يعترِفُ بِالعُمرِ في حُضُورِ الأُم. ما يَهُمُّ أَنِّي لَمْ أَفعلْ شيئاً ضِدَّ الوقت؛ تركتُهُ يمضِي هكذا، مُسرِعاً جاءَ أَو بطِيئاً — أَنا لا أَكترِثُ. يُمكِنُني اختيارُ ما أُرِيدُ صُنعهُ للوقتِ؛ تعلَّمتُ كيفَ أَصنعُ سَيرَ الوقتِ ليُناسِبَ انشِغالِي بمرورِهِ. أَسوَأُ ما أَتحاشَاهُ أَنْ يسُوءَ الوُدُّ بيني وبينَ الوقتِ يوماً؛ لا أَحتمِلُ الضَّجَرَ — الوقتُ المُمِلُّ كالوقتِ المُسرِعِ؛ فيهما لا راحَةَ للعقلِ، وإِنِ استكانَ الجسمُ لضَعفِ تحمُّلِهِ.
شَعْرِي الآنَ يُعْجِبُنِي؛ تخلَّيتُ عن مِقَصِّ الحلاَّق وخُصلاتِي المُتراميةِ أَمامَ ناظريَّ. لن أَستغنِي عن أَشيائِي، هكذا قرَّرتُ، ويُمكِنُني التَّخلِّي عن كُلِّ شيءٍ آخرَ يَمَسُّ هذا الهُدُوءَ الذي عثرتُ عليهِ اليوم.
يا سادتِي ..
أُرِيدُ الاستِفهامَ عن جَرِيمَتِي : كَفَفْتُ الأَذَى عن طريقِي برَسْمِ حُدُودِ مملكتِي التي لا حقَّ لِأَحدٍ فيها إِنْ لَمْ أُبَادِلْهُ الوُدَّ والتَّرحاب. بدَّلتُ وقتَ اللَّيلِ للسَّهرِ، والصَّباحاتِ لأَصواتِ الأَوانِي التي كُلَّما حاولتُ أُخمِدَها، انزَلَقَتْ ضاحِكةً عن كفِّي، وتَصادَمَتْ في حَوْضِ المِغسلةِ مُحدِثَةً جَلَبةً. القهوةُ ذاتُ حبَّاتِ البُنِّ المُحترِقةِ إِلَّا قلِيلاً تُشعِرُني بِالنَّشوة؛ أُدَنْدِنُ، وأَرقُصُ، وأُغَنِّي، وإِنْ جاءَ اتِّصالٌ هاتِفِيٌّ يقطعُنِي عن صوت الأُغنيةِ، لا يَقطَعُ عن خطواتِي رقصُها الشَّبِيهُ بِطِفْلٍ يمِيلُ مع ظِلِّهِ لعِباً. وَالْحمدُ لِلَّه صارتْ بطَّارِيَّةُ هاتِفي لا تَنْفَدُ.
يا سادتِي ..
أَنَا لَمْ أَفْعَلْ شيئاً سِوَى أَنِّي وَزَّعْتُ في كُلِّ الطُّرُقاتِ وجُوهَ مِرْآةِ ابتسامتِي، وأَمانِيَّ بِأَنْ يَمُرَّ عليهم الوقتُ لطيفاً. فما جريمتِي ..؟!
ويحِي إِنْ كانتْ غمَّازَتيَّ عيباً! في بلادي العيبُ هو القانون؛ أَمَّا الحَرَامُ والحلالُ فلهما وجُوهٌ عدِيدة، لكنَّ العيبَ يستوجبُ العِقاب؛ الكُلُّ لنْ يغفِر. أَنا هُنا الآنَ منذُ خمسةِ أَعوامٍ، مُلتزِمةٌ تماماً بالاعتِناءِ جيداً بِنَا، بقضاءِ الوقتِ، قَدْرَ المُستطاعِ، في السَّكِينَة. أَخبَارُ البِلادِ تحتاجُ لأَكثرَ من قُوَّةٍ وَتحمُّل؛ يجِبُ أَنْ أَتركَ ذاكِرَتِي خاوِيةً من أَسماءِ الوزراءِ وكراسي السُّلْطةِ ومُناوَشاتِ الأَلسُنِ النَّجِسةِ، التي صارتْ تُجِيدُ تَباهِيَ الغِلِّ والحِقْدِ والأَلفاظِ الوَقِحَةِ التي صارتْ رمزاً للحريَّةِ وَعَدَمِ الخوفِ للنَّاطِقِينَ بتفاهاتِهِمْ.
لكنِّي أَتساءَلُ : أَيُّ ذَنبٍ، أَو جريمةٍ، أَو عيبٍ، ارتكبتُهُ؟! وأَنا والوقتُ لا ضَغِينَةَ بينَنا كَيْ نُحِيكَ لبعضِنَا الدَّسَائِسَ. لكنِّي هنا مُنذُ خمسةِ أَعوامٍ، ولَمْ أَسمَعْ حُكماً في أَمرِ عودةِ بلادِي؛ لَمْ أَسمَعْ عن عِقَابٍ مَنْ سَرَقَ بيتِي؛ لَمْ يُصْدَرْ أَمرٌ في عُزلتِي وغُربتِي. وَهَلْ سَأَعُودُ يَوْماً؟ وَهَلْ ستَعُودُ البلاد؟ لَمْ أَفْعَلْ شَيئاً سِوَى أَنِّي قُلتُ لأُمِّي : «علينا أَنْ نعشقَ الحياةَ ونتخيَّلَها أَكثرَ رَفاهِيةً كَيْ نَنْجُو بالفَرَح؛ فهِيَ كما نظُنُّ فيها.
مُنْذُ يَوْمِهَا وَأَنَا لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً سِوَى أَنِّي عَايَشْتُ كُلَّ لحْظَةٍ بِأَنَّها كُلُّ ما أَمْتَلِك؛ هكذا سَيَمْضِي الوَقْتُ. «وكلُّو بِيَمْضِي» شِعَارٌ أَشْجُبُ بِهِ ضَعْفِي إِنِ استَعَرَ فِي القَلْبِ لُطْفٌ يُعْلِنُ التَّذَمُّرَ عَلَى حَالِهِ.
والوَقْتُ يَمْضِي، وَأَنَا هنا مُنْذُ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَيَزِيد. لَمْ أَفْعَلْ شيئاً؛ فَهَلْ تُعَاقِبُنَا الحياةُ والبلادُ بالْمَنْفَى؟!
شارك المقال