ملكة الفاضل

ملكة الفاضل

كاتبة وروائية

• كان علي التعود على ذلك الضوء الباهر الذي يغشى الأعين ثم ينزاح عن ضياء مرتعش أو ساحات من العتمة. كان علي أن أعرف لماذا ذلك القلم متناه الصغر يظهر منهمكا في خط الحروف والكلمات على الجانب الآخر ثم ينهكني التقوقع في انتظار رسالة لا تصل. هذا الأمر ظل يتكرر معي كثيرا حتى اضطررت للاستعانة بصديقتي لتعطيني تفسيرا للأمر. وافقت انصياعا لرغبتي فأرسلت لها نماذجا من  الرسائل الواردة والردود الصادرة التي احتشد بها بريدي. قالت لي في أولى رسائلها:

–  ما تكتبيه أنت لا يعجبهم.

–  أنا أرسل الرد المناسب.

–  مناسب في نظرك. غير مناسب في نظر الكائنات الاسفيرية القابعة على الجانب الآخر . هذا يتحدث عن جمال عينيك فتسألينه عن رأيه في مقتل الصحفي الشهير.  وهذا يكتب لك «سال من شعرها الذهب» فتردي بأنها أغنية لصلاح بن البادية. 

– وأين هو الشعر الذي يسيل منه الذهب؟ 

– ولو. هو يعتقد بأن صورتك المعلقة في (البروفايل) ليست لك. المهم..

وهذا يا صديقتي العزيزة تحكي له عن عصفور يحلق خلف نافذتك بينما يتوقع صورة منك تلتقطها كاميرا الجهاز الذي تتواصلين من خلاله من موقع الحدث. وهذا يقول لك يا «عسل» فتردي له بعلامة استفهام وتعجب.  هههة .. وهذا يطلب رقم هاتفك وتردي عليه بمساحة خالية.

– أفضل من الحظر على الأقل . لماذا رقم هاتفي؟

– حتى يتأكد من أنك كائن موجود حقيقة .

– أنا أتواصل إذن فأنا موجودة.

– ليس كفاية. 

– أنا موجودة وسأكتب ما ينبغي علي كتابته. 

– إذن سيظل القلم يكتب من هناك رسائلا لا تصلك هنا.

ما ذكرته صديقتي ظل يشغل بالي إلى درجة أنني ظللت أعقد مقارنات بين رسائل من تعرفت عليهم في ( مونز) ووجدت أن ما ذكرته ينطبق على الجميع إلا أنت.. لم تستغرب تشجيعي لفريق كرة القدم أو تبد استنكارك بل وأخبرتني عن لعبة التنس التي تستحوذ على كل اهتمامك ومع ذلك بدأت ترسل لي أخبار فريقي المفضل ولم يظهر القلم المتناهي الصغر وهو يكتب رسائلا لا تصل. 

وتعود صديقتي للتعليق على المزيد من الرسائل التي تصلني فتكتب:

– هذا يقول لك متسائلا، حدثيني عنك» هل أنت ممتلئة الجسم أم نحيفة؟». فتقولي له أيتها الفيلسوفة الحسناء  :» ما رأيك في تجارة البشر؟ أليست هي الشكل الحديث لتجارة الرق؟  «.  ولما يصهين عن سؤالك يعيد عليك سؤاله « نحيفة أنت أم ممتلئة؟» 

– ماذا يهمه إن كنت نحيفة أم ممتلئة؟… على العموم أنا أخبرته بأن هذا شيء لا يخصه. وجاءت رسالة صديقتي تماما كرسائل تلك الكائنات :

–    ههههههههه.

شد ما أمقت هذه الضحكة .  من الذي قال أن الضحكة تكتب هكذا؟ كنت أرى في مرسلها أحد تلك المخلوقات التي تظهر في أفلام الخيال العلمي وتبعث في النفس الاضطراب. كانت الضحكة تنتصب على الشاشة الصغيرة كلما عبرت عن نفسي بصدق وواقعية يصفني بها كل من عرفني. هذا السؤال بالتحديد عندما طرحته على بعضهم في (مونز) أجمعوا على التهرب ولم أر من جانبهم أي شيء سوى قلم متناه الصغر يكتب ولا تصل رسائله.  إلا أنت . عندما طرحت عليك السؤال نفسه أعلنت رأيك بوضوح ثم أحلتني على عدد من الروابط التي أضافت لي الكثير عن تجارة البشر .

لا أكتمك القول بأنني ظللت لوقت طويل ضحية الخوف من أمرين  أولاهما أن يظهر القلم متناه الصغر وهو يكتب رسائلا منك ولا تصلني والثاني أن تنطلق تلك الضحكة الاسفيرية من حيث أنت. ولكن ولله الحمد فانه ورغم كثرة الرسائل بيننا  ورغم كل التساؤلات التي ظللت أطرحها من جانبي إلا أن القلم متناهي الصغر لم يظهر وهو يخط رسائلا لا تصل ولا تلك الضحكة انطلقت  مثل قذيفة رعناء لتصيب سقف توقعاتي في مقتل. ظللت دائما هناك حضورا أخاذا يشجب بكل هدوء فوضى هذه العوالم الافتراضية وما تخلفه من تشظي وضجيج.

هذا الكل شيء الافتراضي كيف حل بين ظهرانينا فجأة ليشكل ويطوع أوقاتنا كما شاءت لها الأسافير؟ ومن نحن؟ وما هيتنا؟ وهل نحن الذين ندير هذا العالم الافتراضي أم أنه هو الذي يديرنا ويصنع في نفوسنا كل هذه المشاعر المختلطة والتحدي والغرائب والتناقضات؟  ومن اخترع وسائل وجود هذا العالم هل كان يتخيل أن اختراعاته ستؤدي إلى خلق عالم مكتظ بشعوب تضحك بلا سبب وتبكي لأي سبب وتكتب رسائلا لا تعرف الوصول وترسم القهقهة حروفا تبعث القلق والخوف بدلا عن الراحة والطمأنينة؟

حاولت أن أحصل على إجابات على ذلك «الهذيان» كما وصفه القلم متناه الصغر ومثل صاحبه أو صاحبته تلاشى بين طيات الأسافير مفضلا باب المغادرة . أرسلت هذياني إليك فأرسلت لي من الرسائل ما جعلني أتخلى عن طرح تساؤلاتي على الآخرين في (مونز).

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *