
لماذا تهرب العبقرية؟ قراءة في أزمة هجرة الأدمغة

نعمات مصطفى عبد الرحمن
• يُطلَق مصطلح هجرة الأدمغة على انتقال العلماء، والكفاءات، والمتخصّصين، وأصحاب المهارات، والموهوبين من البلدان ذات الأحوال الاقتصادية والمعيشية المحدودة إلى البلدان المتقدّمة؛ بحثاً عن ظروفٍ معيشيةٍ أفضل، وبيئةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ أكثر استقراراً، والوصول إلى الأنظمة التكنولوجيّة المتقدّمة، من أجل تحصيل فرص عمل أفضل برواتب أعلى، وبالتالي الحصول على نوعيّة حياة أفضل. وتُعدّ هجرة الأدمغة أو كما يُطلق عليها أكاديمياً هجرة رأس المال البشري شأناً مقلقاً على النطاق الدوليّ؛ وذلك لتأثيرها سلباً على أحوال البلدان التي تعرّضت لهجرة رأس مالها البشريّ إلى الخارج.
ولا تُعدُّ هجرةُ الأدمغة ظاهرةً حديثةً، إذ شهدَ التاريخ هجرات واسعة للكفاءات من المناطق الريفيّة إلى المدن، كما توالت هجرات الأدمغة من أوروبا إلى أمريكا الشمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
الأصول والاستخدامات
هجرة الأدمغة مصطلح صاغته الجمعية الملكية لوصف هجرة العلماء والتقنيين إلى أمريكا الشمالية من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ويشير مصدر آخر إلى أن هذا المصطلح استُخدِمَ أول مرة في المملكة المتحدة لوصف تدفق العلماء والمهندسين الهنود. واستُخدِمَ هذا المصطلح في الأصل للإشارة إلى عمال التكنولوجيا الذين يغادرون دولة ما، ولكن معناه اتسع إلى «مغادرة الأشخاص المتعلمين أو المحترفين من بلد ما، أو قطاع اقتصادي، أو مجال إلى بلد آخر، عادة بحثاً عن أجور أو ظروف معيشية أفضل».

أشكال هجرة الأدمغة
«هجرة الأدمغة هي ظاهرة يهاجر فيها عدد كبير من الأشخاص الأكثر تعليماً، مقارنة بالسكان المتبقين. يعني مصطلح هجرة الأدمغة، كما هو مستخدم بشكل متكرر، أن هجرة ذوي المهارات أمر سيئ بالنسبة للبلد الأصلي، ويوصي بعض العلماء بعدم استخدام المصطلح لصالح مصطلحات بديلة أكثر حيادية وعلمية.
آثار الهجرة
أظهرت الأبحاث وجود فوائد اقتصادية كبيرة لهجرة الأدمغة للمهاجرين أنفسهم وللبلد المستقبل. وتُعدُّ عواقب هذه الظاهرة بالنسبة للبلد الأصلي أقل وضوحاً، إذ تشير الأبحاث إلى أنها يمكن أن تكون إيجابية، أو سلبية، أو مختلطة. وتشير الأبحاث أيضاً إلى أن الهجرة والتحويلات المالية والهجرة العكسية يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على إرساء الديمقراطية وعلى جودة المؤسسات السياسية في بلد المنشأ.
تأثيرات الهجرة
يُشار أحياناً إلى الآثار الإيجابية لهجرة الأدمغة باسم (اكتساب الأدمغة)، بينما يُشار إلى الآثار السلبية أحياناً باسم (هجرة الأدمغة). يقول الخبير الاقتصادي ميخائيل كليمنس إنه لم يُثبت أن القيود المفروضة على هجرة ذوي المهارات تقلِّل من النقص في البلدان الأصلية؛ ويقول خبير التنمية جوستين سانديفور إنه «لا توجد دراسة تظهر أي دليل تجريبي على أن القيود المفروضة على الهجرة ساهمت في التنمية». ويصف هاين دي هاس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة أمستردام، هجرة الأدمغة باعتبارها (أسطورة)، بينما يرى الفيلسوف السياسي آدم جيمس تيبل، أن الحدود الأكثر انفتاحاً تساعد في التنمية الاقتصادية والمؤسسية للبلدان المرسلة للمهاجرين الأفقر، وذلك على عكس دعاة القيود على الهجرة بسبب (هجرة الأدمغة). يقول فريدريك دوكييه، الخبير الاقتصادي في جامعة لوفان، إن هجرة الأدمغة لها تأثير سلبي على معظم البلدان النامية، حتى لو كانت من الممكن أن تكون مفيدة لبعضها. ويعتمد ما إذا كان بلد ما يواجه حالة «اكتساب الأدمغة» أو «هجرة الأدمغة» على عوامل، مثل تركيبة الهجرة، ومستوى التنمية، والجوانب الديموغرافية، بما في ذلك عدد السكان، واللغة والموقع الجغرافي.
عامل خارجي إيجابي
توصلت الأبحاث إلى أن الهجرة وانخفاض قيود الهجرة لهما آثار إيجابية صافية على تكوين الأدمغة البشرية والابتكار في البلدان المرسلة؛ وهذا يعني أن هناك اكتساباً للأدمغة بدلاً من «استنزاف للأدمغة» نتيجة للهجرة. وتوصلت إحدى الدراسات إلى أن البلدان المرسلة تستفيد بشكل غير مباشر على المدى الطويل من هجرة العمال المهرة؛ وذلك لأن هؤلاء العمال المهرة قادرون على الابتكار أكثر في البلدان المتقدمة، وهو ما تستطيع البلدان المرسلة الاستفادة منه كعامل خارجي إيجابي؛ وبالتالي فإن زيادة هجرة العمال المهرة تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي وتحسين الرفاهية على المدى الطويل.
الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية
تشير الأبحاث أيضاً إلى أن الهجرة والتحويلات المالية والهجرة العكسية يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على المؤسسات السياسية وإرساء الديمقراطية في بلد المنشأ. وتظهر الأبحاث أن المخالطة مع المهاجرين تعزز المشاركة السياسية في البلاد. وتظهر الأبحاث أيضاً أن التحويلات المالية يمكن أن تقلِّل من خطر الحرب الأهلية في بلد المنشأ، وتؤدي الهجرة إلى انخفاض مستويات الإرهاب. وقد ارتبطت عودة المهاجرين من بلدان ذات المعايير الليبرالية بنقل هذه المعايير إلى البلد الأصلي.

الآثار السلبية للهجرة
تتنوّع الآثار السلبيّة التي تخلفها هجرة الكفاءات والأدمغة في شتّى المجالات، ومن أبرزها:
• توسُّع الفجوة بين الدول المُتقدِّمة الجاذبة والدول الأصليّة.
• تبعيّة الأدمغة والكفاءات ثقافيّاً للدول التي هاجروا إليها، وتخلّيهم عن عاداتهم وتقاليدهم، وبالتالي التأثير سلباً في هويّاتهم.
• التكلفة المرتفعة لاستقطاب الكفاءات الأجنبيّة التي ستسدُّ النقص الحاصل في البلد الجاذب وتدريبهم على طبيعة العمل فيه.
• ضعف إجراء البحوث العلميّة، ممّا يعني تبعيّة الدول الفاقدة للكفاءات للدول الجاذبة لها.
• الخسارة الماليّة الكبيرة المُتمثّلة بالموارد الوطنيّة التي تمّ إنفاقها في سبيل تعليم الكفاءات قبل هجرتهم.
• عرقلة التطوُّر الفكري والتعليمي في البلد الذي تُهاجر منه الكفاءات، والتأثير في عمليّات التنمية، وزيادة المهمات والأعباء على الأفراد المُتبقِّين، وهو ما قد يؤدّي إلى فتورهم، وشعورهم بالإرهاق، وضعف إنتاجيّتهم.
• فقدان نسبة كبيرة من القوى المُنتِجة في الميادين المختلفة، ممّا يؤثر سلباً في اقتصاد البلد الذي تُهاجر منه الأدمغة.
• تراجع المستوى الاقتصاديّ، والصحّي، والاجتماعيّ في البلد الذي تُهاجر منه الكفاءات؛ نتيجة فقدان العلماء، والخبراء، والعمالة الماهرة.
الآثار الإيجابيّة
هناك عدّة آثار إيجابيّة لهجرة الأدمغة، على الرغم من كثرة الآثار السلبيّة الناتجة عنها، ومن هذه الإيجابيات ما يأتي:
• التحويلات الماليّة وزيادة الأموال التي يُحوّلها الأفراد إلى الدول الأصليّة، ممّا يدعم عمليّة التنمية.
• تبادل المعرفة ونقلها إلى الدول الأصليّة عبر المؤتمرات والمشاركة في المشاريع العلميّة.
• دفع عمليّة التطوُّر واستخدام التكنولوجيا، وتوفير الدعم اللازم للتنمية في الدول المُستقطِبة للكفاءات والأدمغة.
• احتمال عودة المهاجرين إلى أوطانهم بعد اكتسابهم المهارات اللازمة لعمليّة التنمية، وهو ما يصبّ في مصلحة أوطانهم.
الحدّ من هجرة الأدمغة
يُمكن الحدّ من الآثار السلبيّة لهجرة الأدمغة عن طريق فرض البلد الذي يُعاني من هذه الظاهرة سياسات تشجيعيّة للكفاءات التي تعود إليه، ومحاولة تسخير خبراتهم ومهاراتهم لصالح البلد وبما يُحقّق رضاهم، لكن هذه الخطوات رغم تقليلها من الآثار السلبية لظاهرة هجرة الأدمغة، إلّا أنّها لا توقِفها نهائياً، ولا تُنهي كافّة الآثار الاقتصادية والتنموية المترتّبة عليها، إذ تحتاج البلدان المتضرّرة من هذه الظاهرة إلى تضافر كافّة الجهود المحليّة، وتعاون المؤسسات الحكومية وغير الحكوميّة؛ لاستقطاب كفاءات من دول أخرى، وتعويض النقص الحاصل في الكفاءات المحليّة. ومن الأمثلة على الإجراءات التي تحدّ من ظاهرة هجرة الأدمغة:
توفير فرص اقتصاديّة حيويّة ومُشجّعة
من أهمّ عوامل هجرة الكفاءات عدم توافر الفرص الوظيفيّة في بلدهم الأمّ، وإذا توافرت هذه الفرص فإنّها قد لا تكون برواتب مناسِبة لمستوى المعيشة، لذا يجب إنعاش الاقتصاد، ومنح الكفاءات فرصاً وظيفية مشجّعة للبقاء والإنجاز في البلد الأم.
توفير بيئة سياسيّة واجتماعيّة مستقرّة
يُشجّع إحساس الكفاءات بالثقة بأنّ بلدهم خالٍ من الفساد، ويتّجه في مسار واضح إلى التطوّر والازدهار، على البقاء فيه، واستثمار إمكاناتهم ومهاراتهم على أرضه؛ لذا فإنّه يجدر بالبلد المتضرّر من هجرة كفاءاته، توفير بيئة سياسية مريحة وآمنة، ومساحة اجتماعيّة حيويّة تُعزّز ثقة الكفاءات بمستقبل البلد.
تعزيز الإحساس بالهويّة الوطنيّة
من الغايات المهمّة التي يجب أن تسعى الدول المتضرّرة من هجرة الأدمغة إلى الوصول إليها، بناء هويّة ثقافية قويّة، وتعزيز قيم المواطنة لديهم؛ ممّا يدفع الكفاءات للنهوض ببلدهم، والسعي إلى تطويرها بكلّ ما يمتلكون من مهارات وإمكانات.
شارك المقال