هاشم صديق: شاعر الوجدان وباني الذاكرة الفنية الوطنية

327
فيصل فضل المولى جديد

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• يُعتبر هاشم صديق أحد أبرز رموز الثقافة السودانية الحديثة، وصوتًا شعريًا ومسرحيًا شكّل ملامح الوعي الجمعي في النصف الثاني من القرن العشرين. فإبداعه لم يكن مجرد تعبيرٍ فني، بل كان مشروعًا إنسانيًا متكاملًا يسعى إلى بناء وجدان وطني يقوم على الحرية والجمال والعدالة الاجتماعية. ولد هاشم في مرحلةٍ حاسمة من تاريخ السودان، حين كانت البلاد خارجة من نفق الاستعمار تبحث عن هويتها الثقافية والسياسية. في تلك اللحظة الفارقة، كان الشعر أحد أهم أدوات التشكيل الوجداني، وكان الفن يحمل وظيفة تتجاوز الترف إلى الفعل والموقف.

هاشم صديق، بوعيه الثقافي والسياسي، استطاع أن يُقدّم صيغة فنية جديدة تُزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بين محلية الكلمة وسعة الأفق الإنساني. كان يكتب من قلب الناس ولأجلهم، ويمتلك إحساسًا عميقًا بأن الفن لا يُقاس بمدى جماله فقط، بل بقدر ما يُحدثه من أثرٍ في الوعي الجمعي. ولذلك ظل شعره، سواء في الأغنية أو المسرح، معبّرًا عن نبض الشارع ومُلهِمًا للأجيال.

إن دراسة تجربته ليست ترفًا أدبيًا، بل مدخلًا لفهم كيفية تشكّل الوجدان السوداني الحديث عبر الفن. فهو من القلائل الذين جمعوا بين الحسّ الفني العميق والرؤية الفكرية المتماسكة، فصنع من الشعر السوداني جسرًا بين العاطفة والالتزام، وبين الإبداع والموقف.

البدايات وتشكّل الوعي الإبداعي

نشأ هاشم صديق في بيئةٍ ثقافيةٍ خصبة كانت تموج بالتجريب الفني والانفتاح على المدارس الحديثة في الشعر والموسيقى. تأثر في بداياته بالشعراء الرومانسيين وبالمدرسة الواقعية التي تمجد الإنسان والكفاح اليومي، فكتب نصوصًا تعبّر عن نبض الناس في الأسواق والأحياء الشعبية. ومع مرور الوقت، بدأ يُبلور أسلوبه الخاص الذي يجمع بين البساطة في التعبير والعمق في الفكرة، مستعينًا بلهجةٍ سودانيةٍ عذبةٍ قريبةٍ من روح الشعب.

كان يقرأ لتجارب الشعراء العرب مثل نزار قباني ومحمود درويش، لكنه ظلّ محافظًا على فرادته، إذ جعل من العامية السودانية وسيلةً للتعبير الجمالي والفلسفي في آنٍ واحد، فحوّلها من لغة الشارع إلى لغة الفن الراقي.

الشعر الغنائي وتأسيس وجدان الأغنية الحديثة

ارتبط اسم هاشم صديق بالأغنية السودانية الحديثة منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، حين تعاون مع كبار الفنانين أمثال محمد الأمين ووردي وعبد الكريم الكابلي. وكانت قصيدته الشهيرة «الملحمة» التي غناها محمد الأمين من أهم المحطات في تاريخه الأدبي، إذ مثّلت نقلة نوعية في مفهوم الأغنية الوطنية.

«الملحمة» لم تكن أغنية عادية؛ بل نصًا شعريًا ملحميًا يوثق لمسيرة الثورة السودانية ويمزج بين الرمز والواقع. فهي تعكس صورة السودان الحالم بالحرية، المتطلع إلى العدالة الاجتماعية، وتؤكد أن الأغنية يمكن أن تكون خطابًا وطنيًا جامعًا.

كما كتب هاشم صديق نصوصًا غنائية خالدة مثل «بتتعلم من الأيام» و*»نحن جيل الشدة»*، التي تحولت إلى شعارات فنية في مرحلة الوعي الجمعي. لقد جعل من الكلمة الغنائية أداةً لتشكيل الوعي لا للتسلية، ومن الشعر جسراً بين الفن والمجتمع.

المسرح والشعر الملتزم

لم يكتفِ هاشم صديق بالكتابة الغنائية، بل كان أيضًا رائدًا في المسرح السوداني الحديث. كتب نصوصًا مسرحية تزاوج بين الشعر والحوار الدرامي، منها مسرحية «نبتة حبيبتي» التي تُعدّ من روائع الأدب المسرحي السوداني. في هذه المسرحية، عبّر عن قضايا الحرية والانتماء، مستخدمًا رموزًا مستوحاة من التاريخ والأسطورة السودانية.

كما ساهم في إثراء المسرح الشعري، فكانت أعماله مزيجًا من الشعر والموسيقى والتمثيل، تعكس قدرة الكلمة على تجسيد الصراع الإنساني في أرقى صوره. لقد آمن بأن الفن رسالة، وأن على الشاعر أن يكون شاهدًا على عصره، يكتب بمداد الوجدان لا الحبر وحده.

الانتماء الوطني والاجتماعي

تميّز هاشم صديق بانحيازه الدائم إلى قضايا الوطن والمواطن. لم يكن شعره غزليًا فحسب، بل كان يحمل همّ الإنسان السوداني في مختلف تجلياته. تناول في قصائده قضايا الحرية، والكرامة، والعدالة، والتعليم، والمرأة، فكان بذلك شاعرًا للمجتمع لا للنخبة.

لقد جسّد في أعماله صورة السودان المتعدد والمتعايش، السودان الذي تغني له القرى والمدن والبوادي. لم يكن يميل إلى الخطاب الشعاري، بل إلى الخطاب الإنساني الذي يخاطب وجدان الناس بلغةٍ صادقةٍ تلامس التجربة اليومية.

ومن خلال ذلك، ساهم في ترسيخ مفهوم «الفن الملتزم» في السودان، وهو الفن الذي يسعى إلى بناء وعي جمعي يقوم على الجمال والمعنى والمسؤولية الأخلاقية.

اللغة والأسلوب الفني

اللغة عند هاشم صديق ليست مجرد أداةٍ للتعبير، بل هي كائن حيّ يتنفس نبض الناس. استخدم العامية السودانية بطراوةٍ وشاعريةٍ عالية، لكنها في الوقت ذاته كانت مشبعة بالرمز والتأمل. جمع في قصائده بين المفردة الشعبية والصورة الكونية، فصارت كلماته مألوفةً ومتفردة في آنٍ واحد.

من الناحية الإيقاعية، تأثر بالمدرسة الحديثة في الشعر العربي، لكنه ظلّ وفيًا للإيقاع السوداني الداخلي، لذلك جاءت قصائده موسيقية حتى في غياب اللحن. وفي نصوصه الغنائية، كان يتقن توظيف التكرار والجرس الصوتي لخلق تأثير وجداني عميق في المتلقي.

التأثير على الأجيال اللاحقة

يمكن القول إن هاشم صديق أسّس لمدرسةٍ شعريةٍ كاملةٍ في السودان. فقد تأثر به جيلٌ كامل من الشعراء والمغنين الذين رأوا فيه نموذجًا للفنان الملتزم والمثقف العضوي. 

كان حضوره في الإعلام والمهرجانات والندوات مؤثرًا، وظلّ صوته حاضرًا في الذاكرة السودانية بوصفه أحد صُنّاع الهوية الثقافية.

لقد شكّل شعره جسرًا بين الزمن الثوري القديم والزمن الإنساني الحديث، إذ استطاع أن يعبّر عن التحولات الكبرى التي مرّ بها السودان، من مرحلة الحلم إلى مرحلة الأسئلة الوجودية حول الوطن والهوية.

ومع مرور الزمن، بقيت أعماله تتداولها الأجيال، لا بوصفها نصوصًا تراثية، بل باعتبارها جزءًا حيًا من الوجدان الشعبي.

هاشم صديق والوجدان الجمعي

إن الحديث عن هاشم صديق هو حديث عن وجدانٍ جمعيٍّ تشكّل من خلال الفن. فالكثير من السودانيين ارتبطوا بأغانيه وأشعاره في لحظات الفرح والحزن، في الثورة وفي الحياة اليومية. كانت كلماته بمثابة ذاكرةٍ جماعيةٍ تُعيد إلى الأذهان لحظات الوحدة الوطنية والوعي المشترك.

لقد استطاع أن يعبّر عن الإنسان السوداني في أبعاده المختلفة: العاشق، والمكافح، والمهموم، والحالم. وفي كل ذلك، ظلّ صوته متوازنًا بين الأمل واليأس، بين الحلم والواقع، كأنه يعيد صياغة الذات السودانية في قالبٍ فنيٍّ خالد.

إرثه الفني والثقافي

يمتد إرث هاشم صديق عبر عشرات النصوص الشعرية والمسرحية والأغاني التي أصبحت جزءًا من تاريخ السودان الفني. 

وقد أسهم في تأسيس رؤيةٍ ثقافيةٍ تؤمن بأن الكلمة يمكن أن تكون فعلًا تغييريًا.

تُدرَّس بعض نصوصه في الجامعات والمناهج الفنية، وتُستعاد أعماله في الندوات والاحتفالات الوطنية بوصفها نموذجًا للالتزام والإبداع. كما ظلّ رمزًا للثقافة السودانية الأصيلة التي تنفتح على العالم دون أن تفقد جذورها.

يبقى هاشم صديق، بكل ما قدّم من شعرٍ وأغنيةٍ ومسرح، أيقونةً للوجدان السوداني الحيّ. لقد علّم الأجيال أن الكلمة ليست زينةً للغناء، بل وسيلةٌ للتنوير والتغيير. في زمنٍ كان فيه الفن يُختزل في التسلية، جاء هو ليعيد له رسالته الأولى: خدمة الإنسان.

إن ما ميّز تجربته حقًا هو صدقها، ذلك الصدق الذي يجعل أعماله حاضرة في وجدان السودانيين حتى اليوم. فحين يُغنّي الشعب كلماته في لحظات النصر أو الانكسار، يدرك الجميع أن الشعر يمكن أن يكون وطنًا صغيرًا يحتضن الجميع.

لقد امتلك هاشم صديق ناصية الكلمة والروح، فكان شاعرًا ومفكرًا ومربّيًا للذوق العام. ومن خلال تجربته الممتدة، يمكن القول إن الوجدان الفني السوداني وجد فيه مرآته الصافية — مرآة تجمع بين الطين والمطر، بين التاريخ والحلم، بين الإنسان والوطن.

فما تركه هذا المبدع من إرثٍ لا يُقاس بالسنوات ولا بعدد الأغاني، بل بما زرعه في القلب السوداني من محبةٍ وكرامةٍ ووعيٍ بأن الفن يمكن أن يكون طريقًا إلى الحرية. وهكذا، يظلّ اسم هاشم صديق محفورًا في ذاكرة السودان، رمزًا للصدق والجمال والإبداع المسؤول.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *