نُورَة: نشيد وطنٍ لا يَجفُّ حنينُه – قراءة في شعر حميد وغناء مصطفى (فيديو)

261
حميد ومصطفى
Picture of بقلم: أ. د. فيصل محمد فضل المولى

بقلم: أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• في مسارات الوجدان السوداني، لا تُذكر القصيدة المغنّاة دون أن تُذكر أسماء حفرتها الكلمات في ذاكرة شعب بأكمله. من بين تلك الأسماء يسطع نجم الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد، الذي صاغ الكلمات من تراب القرى وأحزان البسطاء، فأنطق الوطن بلسان أهله. وفي الطرف الآخر من هذا الجمال، يقف الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد، بصوته الذي كان يختزل شوق المنفيين، ووجع العاشقين، وصبر الحالمين.
القصيدة “يا نُورا” ليست نصًا غنائيًا عابرًا، بل تجربة شعرية غنائية مكتملة، تجسِّد التماهي العميق بين الفرد والوطن، بين الحبيبة والخراب، بين الغربة واليقين، بين الحلم المتعثر والوفاء العنيد. كتبها حميد بإيقاع النفس المنهك والمُحب في آن، وغناها مصطفى كما لو كان يُصلي بها.
وقد كان أداء مصطفى للقصيدة جزءًا لا يتجزأ من معناها. افتتح الأغنية بمقام شرقي حزين وتمهيد موسيقي هادئ يعكس التيه، ثم غاص بصوته في نبرات مبحوحة ووقفات صامتة تنقل الحزن دون صراخ. وعندما يبلغ النص لحظة الأمل، يصعد مصطفى بصوته تدريجيًا، ليصل في الخاتمة إلى صرخة وطنية مفعمة بالحب والانفعال، تجعل من القصيدة أكثر من مجرد غناء؛ بل حالة وجودية مكتملة.
“نُورة” في النص ليست امرأة محددة، بل هي رمزٌ مركب. هي الحبيبة، وهي الأرض، وهي الوطن، وهي المستقبل الذي يهرب كلما اقتربت منه. نُورة هي كل ما افتقده السودانيون، وكل ما ما زالوا ينتظرونه. القصيدة تبدأ من الجرح، وتنتهي عند اليقين، تمر على مفازات التيه والعطش، لكنها لا تفرط أبدًا في الرجاء.
حميد لا يكتب عن وطن فوقيّ بعيد، بل يكتب عن وطن يومي، يتنفس بين الناس، يبيع الشاي في الشوارع، ويمشي حافيًا في الأحياء الشعبية، ويصرخ من القهر داخل أزقة المدينة. أما مصطفى، فكان هو الوعاء النقي الذي صبّت فيه هذه الكلمات ففاضت لحناً نابضاً ودمعاً متسربلاً بالمحبة والحنين والاحتجاج.
في مطلع القصيدة نقرأ:
“وكتين يضيع عرق الجباه الشم
شمار في مرقة آه
يا نورا آه”
الصورة هنا تتقاطع فيها السخرية والألم. “الجباه الشم” ترمز للكادحين النبلاء، الذين يُهدَر جهدهم كما يُهدر “الشمار في المرقة”. تبدأ القصيدة بصرخة قهر، تعلن منذ البداية أن ما سيُقال لاحقًا ليس تغنيًا بالوطن، بل سؤال حارق حول قيمته ومعناه وسط هذا الخراب.
“من دربك التور نفس خيل الصبر
فتر خطاوي الشوق وراك
يا نورا آه”
طريقك متعب وشاق لدرجة أن حتى خيول الصبر التي يعتمد عليها العاشق في تحمّل الشوق أُنهكت وتعبت، فلم تعد تقوى على السير.. الوطن تحول إلى حلم مُنهك، يحتاج إلى طاقة خارقة لملاحقته.
ثم يرسم الشاعر صورة لغياب الحقيقة وسط ضوء مصطنع:
“ساعة الشموس الغر تهضلم
تلحق الصح في المغارب
يدفر الضو الكهارب
تدفر المدن الضبابية السرابية الكآبة”
الشموس “الغر”، رموز الصفاء والنقاء، تغرب، في حين يدفعنا “الضو الكهارب” نحو مدن لا نور فيها، بل كآبة مغطاة بضباب الوهم. إنها رمزية لانطفاء الحقيقة، وانتصار الزيف المؤقت.
“حائط التيه والطشاشات فوق كفيف
يا أم عوارض
مو دعاشة ما ها شبورة وتقيف”
هنا نغوص في قعر الضياع. التيه هنا لا يصيب المُبصرين فقط، بل حتى الكفيف الذي لا يرى، صار يغشاه ضياع فوق ضياعه. وهذا ليس غبارًا موسميًا (دعاشة)، بل ضباب وجودي لا يتوقف.
لكن القصيدة لا تسير في خط القنوط، بل تحتفظ بنبض الرجاء:
“جاي ليك يا نورا غيمة
تملا ماعونك خريف
يملا عينيك ويفضل
يروي جواك العطاشا
مو دعاشة”
تأتي الغيمة هنا كرمز للخصب، للحب، للأمل. “ماعونك” ليس فقط وعاء الماء، بل الذات، القلب، الأرض. ونُورة ليست عابرة، بل وطن يحتاج مطرًا يغسله من رماده.
ثم نكتشف أن “نورة” ليست فقط معشوقة، بل “بلادي”:
“يا نفس فجر القصائد .. يا بلادي
القطع قلب الروادي .. باللواجة الجاي وغادي
دا ما هو صوتك… لاها صورتك
دي البترقش نادي فوق صدر الجرائد”
الصحف تنشر صورة مزيفة، بينما الوطن الحقيقي لا يزال مطمورًا تحت الغبار، يعيش في قلب القصائد، ويتنفس في الأسواق، في صوت الباعة، في لُغة الناس.
“لا سراب الصحرا موية .. لا أحجار سلوم موائد
حالكم البصرخ وينادي
يا وطن عز الشدائد”
لا موائد في حجارة سلّوم، ولا ماء في سراب الصحراء. لكنه رغم ذلك، الوطن الذي نصرخ من أجله، لأنه عز الشدائد.
“جاي ليك يا نورا. آفة
آفة للدود البنتر فوق عشيماً داخرو فيك
أصلي لمان أدور أجيك .. بجيك
لا بتعجزني المسافة
لا بقيف بيناتنا عارض”
حميد هنا لا يعود فقط مُحبًا، بل يعود “آفة للدود”، مطهرًا، محاربًا للفساد الذي ينهش الداخل. إنه العاشق الذي عاد لينقذ حبيبته.
وتتجلى ذروة الوفاء في الخاتمة:
“ما شكيت شح الليالي
ما بكيت نح شلتو حالي
رغم إنو الحال بيفضح
إلا كت في الحارة بصرخ
يا وطن عز الشدائد
يا وطن عند الشدائد”
لا شكوى، لا نحيب. فقط صرخة في “الحارة”، من مكان شعبي، من وسط الناس. الصرخة التي تحفظ الكرامة، وتعيد تعريف معنى الحب.
وقد جاء أداء الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد لهذه القصيدة مواكبًا لعُمق النص، متكئًا على إحساسه العالي وقدرته النادرة على تحويل الكلمة إلى مشهدٍ سمعي نابض. استهل الأغنية بمقدمة موسيقية هادئة، ذات إيقاع خافت ومقام شرقي حزين، يُمهّد لرحلة وجدانية تتخللها الغربة والتوق. في مقاطع الحزن، خفّض صوته إلى طبقة مبحوحة، وتعمّد الوقفات بين الشطر والآخر، مما عزز الإحساس بالخذلان ومرارة السؤال. وحين يصف الشاعر الضياع والتشويش، جاءت الموسيقى متناغمة مع ذلك الجو، عبر استخدام ناي وكمان بصوتٍ ضبابي يكاد يضيع في الصمت، فيما حافظ مصطفى على بطء مدروس يشبه المشي في طريق بلا ملامح.
لكن ما إن يبلغ النص لحظة الرجاء، حتى يبدأ مصطفى في تصعيد نبرته بلحنٍ دافئ ومتدرج، خاصة عند الحديث عن الغيمة والخريف، إذ يمتلئ صوته بأمل خافت يتنامى ببطء. أما ذروة الأداء، فتتجلى بوضوح في خاتمة القصيدة، حين تنفجر كلماته في “يا وطن عز الشدائد”، بصوتٍ مفعم بالحب والانفعال، كأنها صرخة وطنية تتجاوز اللحن إلى الهتاف، دون أن تُغادر المقام الشعري أو تفقد نغمتها.
هذا الأداء لم يكن مجرد غناء، بل كان مشاركة وجدانية كاملة في كتابة النص، بالصوت والنَفَس والانفعال، ما جعل القصيدة تجربة سمعية ووجدانية متكاملة، يصعب فصلها عن لحن مصطفى كما يصعب فصلها عن وجدان السودان.
يا نورا ليست فقط قصيدة مغنّاة، بل هي مرآة للوطن، وجهه الذي اختفى في الزحام. نُورة هي السودان كما يسكن قلوبنا: امرأة تشبه النيل، تُشبه أمًّا تسهر، تُشبه نخلة ترفض الانحناء.
حين كتبها الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد، كانت بمثابة وصية شعرية للأجيال. وحين غناها الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد، غدت ترتيلة للمنفيين، نشيدًا للذين لم يتخلوا عن الأمل، رغم كل شيء.
فيا “نُورا” التي فينا، التي لا تموت، ويا وطننا المجروح، كلما ضاقت الدنيا، عدنا إلى هذه القصيدة، نستظل بحروفها، ونُصدق أن الغيمة ستأتي، وأن المطر – وإن تأخر – قادم.

مخرج:
الراحل مصطفى سيد أحمد، ذاك الصوت الذي لا يُنسى، باقٍ في القلب والوجدان. كلما سُمع صوته، انهمر البكاء شوقًا ووجعًا. كان عاشقًا لتراب السودان، ناطقًا باسم البسطاء حتى آخر نفس. ومع ذلك، طاردته السلطة، ونُفي من بلاده، فاحتضنته شعوبٌ أخرى قبل أن يفعل ذلك وطنه. يا لحزن المصير، ويا لعظمة الإنسان.
الرحمة لكم، يا مصطفى وحميد.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *