
هيثم محمداني
كاتب صحفي
• منذ أن بدأ الإنسان بناء التجمعات البشرية، أدرك أن لا عمران بلا نظام، ولا نظام بلا قانون، ولا قانون بلا عدل. ولعل من أخطر ما يصيب الأمم في مقتل، أن تُكتب القوانين ولا تُنفّذ، أو تُنفّذ على الضعفاء وتُستثنى منها الأسماء الثقيلة والواجهات المحصنة.
وحين نُمعن النظر في مسار الحضارات، نجد أن الأمم التي رسخت أقدامها في التاريخ لم تفعل ذلك عبر الحناجر المرتفعة، ولا عبر الخطابات الحالمة، بل عبر إقامة ميزان العدل وهيبة القانون، دون محاباة أو تهاون.
إن رسولنا، محمداً صلى الله عليه وسلم، حين أقام دولته في المدينة، أدرك أن أهم دعامة لأي كيان هو القانون العادل. فوضع «صحيفة المدينة»، وأسس لمبدأ المواطنة المتساوية قبل أن تكتشفه دساتير أوروبا بقرون. لكنه لم يكتف بالتشريع، بل ضرب أروع الأمثلة في تطبيق القانون، حتى بلغ به الأمر أن قال: «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
هل كان بحاجة إلى هذه الصرامة؟ نعم، لأن دولة ناشئة لا يُمكن أن تقوم على المجاملة. ولأن رسالة العدل لا تبلغ قلوب الناس بالشعارات، بل بالأفعال التي تثبت أن لا أحد فوق القانون، حتى ولو كانت فاطمة، سيدة نساء العالمين.
ولكي لا نظن أن هذه مجرد قصة من التاريخ، دعونا ننتقل إلى عصرنا الحديث.
انظر إلى سنغافورة، الدولة الصغيرة التي تحولت في بضعة عقود من مستنقع من الفساد والفقر، إلى أحد أعظم اقتصادات آسيا. كيف؟ بيد القانون التي لم ترتجف. كان لي كوان يو، مؤسس نهضتها، يقول: «حين أردتُ محاربة الفساد، قررت أولاً أن أبدأ بأصدقائي».
وكذلك رواندا، التي خرجت من أفظع حرب أهلية شهدتها إفريقيا، لكنها اليوم تُضرب بها الأمثال في الأمن والتنمية والنزاهة. كيف؟ لأن الدولة لم تكتفِ بمعاقبة الفساد فحسب، بل رفعت شعار التسامح، وأدركت أن الثأر لا يُعيد بناء وطن، ولا يُصلح مجتمعاً. ولهذا ابتكرت ما يُعرف بـ»العدالة المجتمعية»، من خلال «محاكم جاكاكا»، وهي محاكم محلية نشأت في القرى والأحياء، يشارك فيها المجتمع بأكمله في تسوية النزاعات، إما عبر التسامح، أو المحاسبة، حتى على أعلى المستويات.
ونحن لا ننكر أن للسودان خصوصيته، خاصة بعد الأحداث المؤلمة والحرب الأخيرة التي مزّقت النسيج الوطني، وغيّرت موازين القوى. ومن الطبيعي، بل والمتوقع، أن تظهر تحديات كبيرة، وتبدأ المطالب في تقاسم السلطة بين المجموعات التي شاركت في الحرب. لكن علينا أن نُدرك، بعقل الدولة لا بعاطفة المجموعات، أن المصلحة الوطنية يجب أن تتقدم على كل الحسابات الضيقة.
لا بد من حسم هذا الأمر، عبر دمج هذه المجموعات تحت مظلة الدولة، ضمن مؤسسات وطنية موحدة، تخضع لسلطة القانون، وتعمل تحت راية واحدة، لا رايات متنافسة. فبقاء السلاح خارج الدولة هو تهديد مستمر، وتأجيل الحسم هو تأجيل للانهيار.
السودان اليوم لا يحتاج إلى تسويات رمادية، بل إلى قرارات صارمة تُعيد للدولة هيبتها، وتُرهب المفسدين، وتُطمئن المواطن أن هذه الأرض لن تُبنى بالضعف ولا بالخوف.
وكما أن القانون يجب أن يُطبق بعدالة، فإن القائمين على تنفيذه أنفسهم لا بدّ أن يخضعوا لرقابة صارمة، ويُحاسبوا بقوانين رادعة إن ثبت تهاونهم، أو تواطؤهم، أو قبولهم الرشوة بهدف تعطيل العدالة. فتعطيل القانون من منفذيه، أخطر من خرقه من عامة الناس، لأنه يهز الثقة من الجذور.
ولا يمكن أن نُقلّص العقوبات في وقت تحتاج فيه الدولة إلى الانضباط، فـ»اللين في غير موضعه ضعف»، كما قال الحكماء. إننا بحاجة إلى عدالة سريعة، وقضاء مستقل، وقانون يُطبق كالسيف، لا يميل إلا بالحق.
من أراد نهضة حقيقية، فليبدأ من القانون. فإن ساد القانون، توارت الفوضى. وإذا رُفع فوق الرؤوس ميزان العدل، سقطت أصنام الفساد. ولا نهضة تُكتب لأمة إلا إذا آمنت أن العدالة ليست أمنية، بل نظام صارم لا يستثني أحداً.
شارك المقال