الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• كانت جارتنا نفيسة امرأة لم ترَ خطيئة في الدنيا إلا ووجدت لها عذراً. إذا تأخرت عن سداد دين، قالت إن التجار هم اللصوص. وإذا أحرقت الطعام، قالت إن (الحَلَّة) كانت رديئة الصنع. وإذا أهملت أولادها حتى أصبحوا كالقطط الضالة، قالت إن الزمن لم يعد كما كان. ومن كثرة أعذارها، سمَّتها نساء الحلة «نفيسة عذر». ولم تكن نفيسة وحيدة في ذلك، بل كانت ملكة غير متوَّجة على أرض خصبة من الأعذار.
في السودان، نعيش وكأنَّ الأعذار عملة وطنية قابلة للتداول. لا نكاد نفشل في أمر حتى نخرج من جيوبنا عذراً لامعاً وأنيقاً، نلمعه بأطراف الجلباب، ثم نقدمه للآخرين وكأنَّه حكمة مقدسة. الطالب الذي يرسب في الامتحان يلوم المنهج. الموظف الكسول يلوم الحكومة. التاجر الغشّاش يلوم السوق. والأعجب من ذلك أننا نصدق بعضنا بعضاً، فننهض من مجلس العتاب ونحن نشعر بأننا ضحايا ظروف قاسية، لا كسالى أو فاشلين.
الأعذار مثل السُّكر، تُدمنها فتنسيك مرارة الفشل، لكنها لا تُطعمك خبزاً. لو أنَّ نصف الطاقة التي نضعها في تبرير أخطائنا استخدمناها في تصحيحها، لصرنا أمة أخرى. لكننا نفضل أن نعيش في ظل خرافة «الظروف» و«الحظ العاثر»، وكأنَّ النجاح ضربة حظ لا صناعة يد.
«نفيسة عذر» ماتت منذ سنوات، لكنّ أعذارها ما زالت حيّة بيننا، تتوارثها الأجيال كإرث عظيم الشأن. والأسوأ أننا لم نعد نستخدم الأعذار لتبرير أخطائنا فحسب، بل لنبرر عدم المحاولة من الأساس. لا نحاول، لا نخطئ، لا نتعلم، فقط ننتج الأعذار كالمصانع. وهكذا يظل السوداني واقفاً في مكانه، يحفر قبر أحلامه بأسنانه، ثم يلوم الأرض على قسوتها.
قد يكون بإمكاننا أن نقول إننا كنا مشغولين، أو إن الذاكرة خانتنا في التذكر. أو إن العمل يحتاج جهداً أكبر ومعرفة أعمق لا بدَّ من اكتسابها… لكننا لا نفعل. لأن الأعذار، مثل السجائر الرخيصة، تدمنها بسرعة، وتفسد رئتيك ببطء.
عندنا، نتعامل مع الأعذار كما لو كانت حقاً مكتسباً. ننسى، نُقصّر، نُخطئ، ثم نُخرج من جعبتنا كلمة «عذر» وكأنها سحر يُذيب المسؤولية. كلمة صغيرة تتحول إلى جدار نحتمي خلفه من مواجهة أننا ببساطة… لم نحاول.
الأعذار الجيدة لا تُصلح الأخطاء السيئة. لو أنَّ كل السودانيين توقفوا عن العمل لأن «الظروف صعبة»، فمن سيبني البلد؟ نحن نختلق الأعذار لأن الخجل من الفشل يؤلمنا أكثر من الفشل نفسه. نفضّل أن نكون ضحايا الظروف على أن نعترف بأننا لم نحسن التصرف.
لكن الحقيقة البسيطة هي أنه لا يوجد عذر يمحو الخطأ. الاعتراف بالحقيقة أفضل ألف مرة من تبريرٍ واهٍ. لو أنَّ كل واحد منا توقف عن تلفيق الأعذار ليوم واحد فقط، لاختلف حالنا. لكننا نفضل أن نعيش كأسرى «ذريعة»، نرددها كأنها (مانترا) تُبرر لنا الركود.
في النهاية، الأعذار ليست سوى أقفاص نصنعها لأنفسنا، ثم نتعجب من ضيق العالم من حولنا. كل عذر نقوله هو حجر نضعه في جدار يفصلنا عن ذواتنا الحقيقية، وعن الآخرين، وعن الحياة ذاتها. ربما حان الوقت لكسر هذه الأقفاص، ليس بالصراخ أو العنف، بل بصمت طويل نتحمله أمام المرآة، حيث لا يعمل العذر كسيف يقطع الحبل الذي يربطنا بمسؤوليتنا. هناك، في ذلك الصمت، سنسمع صوتنا الحقيقي لأول مرة: بلا تبريرات، بلا أقنعة، فقط إنسان يعترف بأنه سقط… ثم ينهض.
ربما أننا نعرف أن الكلمات لا تُعيد الوقت الضائع. لكن السؤال الأشرف: هل سنتعلم يوماً أن نضع «الأعذار» جانباً، ونبدأ من حيث انتهى عذرنا الأخير؟

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *