نصوص قبطية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة (1) 

58
صورة رئيسية
Picture of  د. أحمد الياس حسين

د. أحمد الياس حسين

أكاديمي متقاعد وباحث مستقل

تمهيـد

• تناولت المصادر الرومانية والأكسومية معلومات عن تحركات سكانية كبيرة تحت اسم القبائل النوبية منذ نهاية الألف الأخير قبل الميلاد، من المناطق الواقعة غرب النيل الأبيض، بسبب الجفاف الذي ضرب تلك المناطق، 

وأدت تلك التحركات السكانية في منتصف القرن الرابع الميلادي إلى انهيار مملكة مروي، وإلى تغيّرات سكانية واسعة في مناطق وسط  السودان وشماله.

وأعقب تلك التحركات قيام ثلاث ممالك على النيل؛ هي بالترتيب من الشمال إلى الجنوب مملكة نوباديا، المعروفة في المصادر العربية باسم مملكة مريس، وعاصمتها فرس شمال وادي حلفا. ومملكة المقرة، وعاصمتها دنقلة. ومملكة علوة، وعاصمتها سوبا. وقد اعتنقت تلك الممالك المسيحية في القرن السادس الميلادي. اتبعت مملكة نوباديا المسيحية  المذهب اليعقوبي؛ مذهب الكنيسة القبطية، وكان بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية يرسل الأساقفة لكنيسة نوباديا. واتبعت مملكة مقرة المسيحية المذهب الملكي الذي أقرته الإمبراطورية  البيزنطية التي كانت تحكم مصر. وكانت الكنيسة الملكية ترسل الأساقفة إلى مملكة المقرة. 

وذكر ابن البطريق (تاريخ ابن البطريق طبعة 1858 ج 2 ص 386) أن بطرك الكنيسة الملكية غادر الإسكندرية بعد فتح المسلمين مصر في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب، وأصبحت الكنيسة الملكية بدون بطرك حتى السنة السابعة من خلافة هشام بن عبد الملك (112ه/730 م). وأشرفت الكنيسة القبطية في هذه الفترة على كل الكنائس في مصر،  وكان أهل بلاد النوبة يرسلون إلى بطاركة الإسكندرية ليمدوهم بالأساقفة. 

ويسعى هذا الموضوع إلى المساهمة في الإجابة عن السؤال المهم والمفصلي في تاريخ السودان وهو: متى اتحدت مملكتا نوباديا (مريس) والمقرة؟ بالرجوع إلى بعض النصوص القبطية في هذا الصدد. تأتي أهمية الإجابة عن هذا السؤال في أنه يحدد المملكة النوبية التي حاربها المسلمون، ووقّع معها عبد الله بن سعد عام 31ه/51-652 م الصلح المشهور بمعاهدة البقط.

تباينت آراء المؤرخين حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة. رأى بعض المؤرخين أن الاتحاد تم بين المملكتين أمام خطر الغزو الفارسي لمصر عام 616 م/ 6 ق هـ (قبل الهجرة). وهنالك من يرى أن الاتحاد تم عندما غزا المسلمون مصر بقيادة عمرو بن العاص، وقد تم توافقاً – وليس اتحاداً – بين المملكتين للتصدي للمسلمين. ويرى أصحاب هذا الرأي أن ذلك الاتفاق انتهي بنهاية الحرب. وبعد نحو أربعة عقود من ذلك التوافق، تم اتحاد المملكتين بقيادة مملكة المقرة، وأصبحت بلاد النوباد تمثل الإقليم الشمالي لمملكة مقرة. 

وذهب جمهرة المؤرخين إلى أن اتحاد المملكتين تم في وقت ما قبل حملة عبد الله بن سعد عام 31هـ/  51-652 م على النوبة. فقد ورد في رواية المقريزي للصلح مع النوبة (معاهدة البقط) أن عبد الله بن سعد وقّع الصلح مع ملك المقرة الذي تمتد حدوده شمالاً حتى أسوان، ولذلك لم يعد هنالك وجود لمملكة نوباديا.  وقد تناولت في عدد من المقالات نشرت في الصحف الإلكترونية إشكاليات نص المقريزي للبقط، كما سيتم تناول ذلك بالتفصيل في الطبعة الثانية من كتاب «مراجعات في تاريخ السودان». 

وسنتناول هنا ثلاثة نصوص وردت في المصادر القبطية عن اتحاد المملكتين هي:

 رسالة من ملك المقرة إلى بطرك الإسكندرية 

رد البطرك على رسالة ملك المقرة، وقد جاء بروايتين هما: 

رواية أبا مينا 2-1 

ورواية ابن المقفع 2-2  

وسيتم في هذه الحلقة رقم 1 تناول «رسالة من ملك المقرة إلى بطرك الإسكندرية»، ورد البطرك علي رسالة ملك المقرة رواية أبا مينا 2-1، وفي الحلقة التالية رقم 2 سيتم تناول «رد البطرك على رسالة ملك المقرة رواية ابن المقفع 2-2». 

1. رسالة ملك المقرة 

إلى بطرك الإسكندرية 

كتب البطرك أبا مينا Abba  Mina سيرة البطرك إسحاق  Life of Isac نحو عام 700 م/81ه (منشور في كتاب: Vantini, Oriental Sources Concerning Nunia) ) ذكر فيه أن ملك مملكة مقرة أرسل رسالة إلى البطرك إسحاق بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية بين عامي67 – 70هـ )686-689 م)، يخبره فيها بأن مملكة المقرة تعاني من نقص في عدد الأساقفة، لأن ملك موريتانيا – الذي هو في عداوة مع المقرة – يمنع الأساقفة القادمين من الإسكندرية إلى مملكة مقرة من السفر عبر بلاده. ويواصل أبا مينا قائلاً: 

«في الحقيقة يوجد ملكان يحكمان في تلك المنطقة، كلاهما مسيحي، ولكن لا سلام بينهما، لأن أحدهما وهو ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين. أما الآخر وهو ملك المقرة العظيمة لم يكن في سلام مع المسلمين». 

1. رسالة البطرك إسحاق

 إلى ملك موريتانيا رواية أبا مينا 

وعندما استلم البطرك إسحاق رسالة ملك مقُرة وفهم محتواها، كتب رسالة إلى ملك موريتانيا يعظه ويوجهه، ويقول له: «أنتم كلاكما مسيحي… إذا منعت مرور الأساقفة للوصول عبر بلادك إلى البلد الواقع في أعلى النهر، فإن الناس سيهجرون الكنيسة، وسيكون ذلك عاراً كبيراً أمام الله». 

وذكر أبا ميِنا «أن والي مصر علم بأمر الرسالة عبر بعض أعوانه، وأخبروه بأن الأمر لم يتوقف فقط على طلب إرسال الأسقف، بل أضافوا: أن البطرك أرسل رسالة إلى ملك موريتانيا، ينصحه فيها بإقامة سلام مع ملك مقُرة الذي هو عدو للمسلمين، وإذا ما تم ذلك سيكون الملكان يداً واحدة، ويشكلان خطراً على المسلمين»، فطلب والي مصر إحضار البطرك من الإسكندرية. وعند حضور البطرك تمكن من مساواة الأمر بسلام مع الوالي. كما يتضح في رواية ابن المقفع فيما يلي في الرسالة (2-2).

 كيف تم علاج القضية.

ما يفهم من الرسالتين

وردت عبارتان في هاتين الرسالتين تتطلبان التعليق عليهما، وهما «موريتانيا» و»المملكة الواقعة أعلى النهر».  

توضح رسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) أن ملك المقرة يشتكي ملك موريتانيا، لأنه يمنع الأساقفة الوافدين من مصر عبور بلاده للوصول إلى مملكة  المقرة. ومن الواضح هنا أن ملك المقرة يشير إلى ملكٍ تقع بلاده بين مصر شمالاً والمقرة جنوباً، وأطلق عليه ملك موريتانيا، كما ورد ذلك أيضأً في رسالة البطرك رقم 2-1 «ملك موريتانيا»، فمن هو ملك موريتانيا؟

ذكر John of Nikiou يوحنا النقيوسي المعروف بيوحنا المدبر نحو عام 67ه/686 م في كتابه الذي نشره H. Zotenberg تحت عنوان Le Chronique de Fean de Nikiou «أن بربر مديريتي النوبة وأفريقيّة يُطلق عليهم الموريتانيون» في (Vantini, Oriental Sources Concerning Nubia, p 404) وأوضح المحقق في الحاشية أن أفريقيِّة هنا مقصود بها الولاية الرومانية في منطقة تونس الحالية. 

فقد أطلق الرومان اسم أفريقيا على الولاية التي أسسوها في القرن الثاني قبل الميلاد في منطقة تونس الحالية والجزء الغربي من ساحل ليبيا الحالية، وتكتب في المصادر العربية أفريقيِّة بشدة على الياء مكسورة. وأطلق الرومان اسم موريتانيا على المنطقة الواقعة غرب ولاية أفريقيِّة والممتدة حتى المحيط الأطلسي، وموريتانيا في الأصل هو الاسم الذي أطلقه الرومان على سكان هذه المنطقة. والبربر Barbarians هو الاسم العام الذي أطلقه الرومان على سكان منطقة شمال أفريقيا الواقعة غرب مصر.   

وما ذكره John of Nikiou – أعلاه – من «أن بربر مديريتي النوبة وأفريقيِّة يُطلق عليهم الموريتانيون» يوضح أن الرومان كانوا أيضاً يطلقون على النوبة اسم البربر. فملك موريتانيا في الرسالتين أعلاه مقصود به ملك النوبة. ومن الواضح أن ملك النوبة الذي يمنع الأساقفة من مصر المرور عبر بلاده جنوباً إلى المقرة (الرسالتين 1 و1-2) هو الملك الذي تقع مملكته شمال مملكة المقرة، وهو ملك نوباديا. فموريتانيا في الرسالتين لم يُقصد بها المورتانيين في شمال أفريقيا، لأن المورتانيين في شمال أفريقيا كلها في ذلك الوقت (نحو عام 67ه/686 م) كانت قد خضعت للمسلمين. وقد أشار هندركس. Bebjamin Hendrickx في موضوعه عن ملك المقرة مِركويوس، إلى أن بعض المؤرخين أوضحوا أن موريتانيا في الرسالتين 1 و1-2 هي مملكة نوباديا.  

وعندما تناول فانتيني (تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان ص 20) هذه الرسالة أوضح (بين سين) أن موريتانيا تعني نوباديا، حيث ذكر: «بعث البطرك إسحاق برسالة إلى ملك موريطانيا (نوباطيا) وملك مقرة، داعياً إياهما إلى التصالح بينهما، حيث أن كليهما مسيحي. فقد كان ملك نوباتيا يمنع مبعوثي البطرك من المرور إلى دنقلة، ويمنع مبعوثي ملك دنقلة من عبور أراضيه في طريقهم إلى مصر». 

كما أوضح أبا مينا – الذي كتب نحو عام 81 ه – في الرسالة رقم 1- أنه يوجد في المنطقة ملكان لا سلام بينهما «أحدهما ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين  أما الآخر وهو ملك مقرة لم يكن في سلام مع المسلمين». فالمقصود بالملك الذي «في سلام مع المسلمين» هو الملك الذي وقّع الصلح مع عبد الله بن سعد عام 31ه51-652 م وهو ملك نوباديا، بينما ملك مقرة – كما يوضح النص – لم يكن في سلام مع المسلمين. وقد تمت مناقشة اتحاد مملكتي نوباديا والمقرة في كتاب مراجعات في تاريخ السودان.

فرسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) إلى بطرك الإسكندرية، ورسالة بطرك الإسكندرية (رسالة رقم 2-1) اللتان كتبتا بين عامي  67 – 70هـ وتعليق أبا مينا الذي كتب عام 81هـ توضح وجود مملكتين منفصلتين في جنوب مصر – بعد نحو 50 سنة من حملة عبد الله بن سعد عام 31هـ – إحداهما مملكة المقرة، والثانية مملكة موريتانيا (مملكة نوباديا).

 ومن المعروف أن الصلح الوحيد الذي وقّعه المسلمون مع النوبة في القرن الأول الهجري، هو الصلح المشهور باسم البقط عام 31هـ. وهذا الصلح لم يوقع مع مملكة المقرة، لأن مملكة مقرة كما في الرسالة رقم 1 لم تكن في صلح مع المسلمين.  

وفي الرسالة رقم 1-2 يؤنب البطرك ملك موريتانيا لمنعه وصول القساوسة إلى مملكة «الواقعة على أعلى النهر. «النهر» هنا مقصودُ به النيل، و»أعالي النهر» مصطلح يعني اتجاه الجنوب على النيل. فالنيل ينحدر من الجنوب إلى الشمال، فكلما سرنا جنوباً على النيل كانت المناطق الواقعة جنوباً أعلى من المناطق الواقعة إلى الشمال. فالبطرك يرجو من ملك موريتانيا ألّا يمنع مرور الأساقفة إلى المملكة الواقعة إلى الجنوب من بلاده. ومن الواضح هنا أن البطرك يخاطب ملك المملكة الواقعة شمال مملكة المقرة، وهي مملكة نوباديا التي كانت موجودة كمملكة مستقلة حتى عصر البطرك إسحاق بين عامي (67 – 70هـ)، وعصر أبا مينا عام 81هـ.

 

شارك المقال

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *