نحو ميلاد قوة إقليمية جديدة: مشروع تكتل القرن الإفريقي للتكامل والتنمية
Admin 13 سبتمبر، 2025 96
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
المقدمة: فرصة القرن الأفريقي للخروج من الهامش
• القرن الإفريقي منطقة طالما ارتبط اسمها في وسائل الإعلام العالمية بالحروب الأهلية والمجاعات والكوارث الإنسانية. منذ ستينيات القرن الماضي، لم تكد شعوب السودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي تلتقط أنفاسها من نزاع حتى تدخل في آخر. التدخلات الأجنبية لم تتوقف، فالمستعمر الأوروبي بالأمس حل محله اليوم التنافس الأمريكي–الصيني–الروسي، إضافة إلى نفوذ إقليمي من دول الخليج وتركيا وإيران. كل قوة خارجية سعت إلى فرض أجندتها الخاصة، بينما بقيت مصالح الشعوب مؤجلة.
ورغم هذا التاريخ المليء بالتقلبات، يظل القرن الإفريقي منطقة غنية بالموارد وفرص التنمية. فهو يطل على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم: البحر الأحمر وباب المندب، حيث تمر سنويًا سفن محملة بالنفط والبضائع من آسيا إلى أوروبا. كما أنه يملك ثروات زراعية ومائية ومعدنية قلّما اجتمعت في إقليم واحد. لكن هذه الفرص بقيت مبعثرة بسبب غياب مشروع إقليمي جامع.
إن الحديث عن تكامل القرن الإفريقي ليس رفاهية فكرية، أو حلمًا بعيد المنال، بل هو استحقاق تفرضه حقائق الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا. فالمصير المشترك لهذه الدول يفرض التعاون، تمامًا كما دفعت الحربان العالميتان أوروبا إلى الاتحاد. الفرق أن دول القرن الإفريقي أمامها اليوم فرصة أن تتعلم من تجارب الآخرين، وأن تبدأ مبكرًا في بناء آليات واقعية للتكامل، قبل أن تفرض الأزمات المستقبلية أثمانًا أكبر. ومن هنا يطل تكتل القرن الإفريقي للتكامل والتنمية (Horn of Africa Integration Bloc (HAIB)) كفكرة طموحة، يمكن أن تعيد تعريف هوية المنطقة، من ساحة صراع إلى منصة استقرار وإنتاج.
الأهداف الاستراتيجية للتكتل
الأمن والاستقرار: الأمن هو حجر الأساس. التكتل يهدف إلى إنشاء قوة مشتركة لحماية الحدود والبحر الأحمر، وإقامة غرفة عمليات إقليمية لمواجهة الإرهاب والقرصنة. نجاح بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال دليل على أن العمل الجماعي قادر على تحقيق نتائج لم تستطع الدول الفردية إنجازها.
احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل: من المبادئ الجوهرية أن هذا التكامل لا يتعارض مع سياسات أو أنظمة أي دولة عضو. كل دولة تحتفظ بكامل سيادتها، بينما يعمل التكتل كإطار للتعاون والتنسيق، لا كبديل عن مؤسساتها الوطنية. هذه النقطة أساسية لضمان ثقة الشعوب والحكومات على حد سواء.
التكامل الاقتصادي: الاقتصاد هو المحرك. السوق المشتركة ستفتح أمام المنتجات الزراعية والصناعية منافذ جديدة. إثيوبيا، الدولة الحبيسة، ستستفيد من الموانئ المجاورة، بينما الصومال يمكن أن يصدّر ثرواته السمكية والحيوانية بسهولة.
الأمن الغذائي: تحويل السودان وإثيوبيا إلى «مزرعة إقليمية» عبر استثمارات مشتركة، سيؤمن الغذاء للجميع. مثلًا، مشروع زراعي مشترك على الحدود السودانية–الإثيوبية يمكن أن يغطي احتياجات ملايين السكان من الحبوب والزيوت.
الطاقة والبنية التحتية: الربط الكهربائي بين سد النهضة ومناطق السودان وإريتريا سيخفض تكاليف الطاقة. أما السكك الحديدية، فهي العمود الفقري لربط الموانئ بالداخل. تجربة كينيا مع خط سكة الحديد «مومباسا–نيروبي» تظهر أن مثل هذه المشاريع تغيّر معادلات التجارة.
التعليم والبحث العلمي: جامعة إقليمية للقرن الإفريقي ستكون منصة لصناعة جيل جديد من الباحثين والمهندسين والأطباء. الأبحاث المشتركة في مجالات الزراعة المقاومة للجفاف أو مكافحة الأوبئة، ستعود بالنفع على الجميع.
التكامل الثقافي والاجتماعي: المهرجانات الموسيقية والرياضية والإعلامية ستعيد إحياء الروابط الشعبية. لغات المنطقة يمكن أن تصبح جسورًا بدلاً من أن تكون جدرانًا.
أسباب نجاح التكامل
الموقع كميزة تنافسية: تمامًا كما تحولت سنغافورة إلى مركز عالمي بسبب موقعها، فإن موانئ جيبوتي ومصوع وبورتسودان ومقديشو، يمكن أن تتحول إلى عقدة تجارية متكاملة.
تكامل الموارد: السودان وإثيوبيا يملكان الأراضي الزراعية، إريتريا المعادن، الصومال الثروة الحيوانية والسمكية، وجيبوتي البنية اللوجستية. لا توجد منافسة مدمرة، بل تكامل طبيعي.
العنصر البشري: 60% من السكان تحت سن الثلاثين. إذا تم استثمار طاقتهم بالتعليم والتكنولوجيا، يمكن تحويل القرن الإفريقي إلى «مصنع قارة إفريقيا».
الحاجة إلى الاستقرار: كل أسرة في السودان أو الصومال عانت من الحرب أو النزوح. هذا يولّد طلبًا شعبيًا قويًا على أي مشروع يوفر السلام والتنمية.
التحول الرقمي: انتشار الهواتف الذكية حتى في القرى البعيدة، يفتح مجالًا أمام اقتصاد رقمي: تحويل الأموال عبر الهاتف، التجارة الإلكترونية، والتعليم عن بعد.
موقف شعوب المنطقة
السودان: المزارع السوداني يتطلع إلى أسواق جديدة، يبيع فيها محصوله من السمسم والذرة. الشاب العاطل في الخرطوم يحلم بفرصة عمل في مشاريع إقليمية للطاقة أو النقل.
إثيوبيا: الطالب في أديس أبابا يريد أن يرى بلده متصلًا بالعالم عبر موانئ قريبة، بدلًا من الاعتماد على وسيط خارجي. الأسر الريفية تنتظر كهرباء أرخص تصلها من شبكة إقليمية.
إريتريا: الشاب الإريتري الذي عانى من العزلة الدولية يحلم بالسفر بسهولة إلى السودان أو إثيوبيا للدراسة أو العمل.
الصومال: التاجر الصومالي يتمنى أن يتمكن من تصدير أسماكه ولحومه عبر ممرات آمنة إلى أسواق الجوار. العائلات في مقديشو تريد استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا يعيد بناء الدولة.
جيبوتي: المواطن الجيبوتي يرى أن موقع بلده كنقطة لوجستية يحتاج إلى تكامل مع جيرانه، كي لا يبقى معتمدًا كليًا على القوى الأجنبية.
التحديات وسبل تجاوزها
• النزاعات الحدودية: يمكن حلها بإنشاء محكمة عدل إقليمية.
• الهشاشة السياسية: تحتاج إلى إصلاحات داخلية ودعم مؤسساتي.
• التدخلات الخارجية: تُواجه بموقف تفاوضي موحد.
• ضعف البنية التحتية: يعالج باستثمارات مشتركة وقروض ميسّرة.
• المخاوف من الهيمنة: تُعالج بتوزيع عادل للمؤسسات، مع التأكيد أن التكامل لا يتداخل مع سياسات الدول، بل يكمّلها ويحترم استقلالها.
الدروس من تجارب مماثلة
الاتحاد الأوروبي: بدأ بمشروع محدود للفحم والصلب، وتحول تدريجيًا إلى اتحاد سياسي واقتصادي. الدرس: لا تبدأ بالكبير، بل بخطوات صغيرة تبني الثقة.
تجمع شرق إفريقيا (EAC): نجح في فتح الحدود بين كينيا وتنزانيا وأوغندا، ما أدى إلى زيادة التجارة البينية بشكل ملموس. هذا يؤكد أن التكامل الإفريقي ممكن.
مجلس التعاون الخليجي (GCC): رغم الخلافات السياسية، استمر التعاون الأمني والاقتصادي. الدرس: المصالح المشتركة قادرة على تجاوز الأزمات.
رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN): تجربة آسيا تبيّن أن دولًا متباينة ثقافيًا وسياسيًا يمكنها أن تنشئ سوقًا مشتركة، وتحقق نموًا هائلًا إذا ركزت على الاقتصاد أولًا.
أنسب شكل للتكتل في القرن الأفريقي
السؤال المحوري هو: أي نموذج من النماذج العالمية يصلح للقرن الإفريقي؟
• المرحلة الأولى (1–5 سنوات): اتحاد كونفدرالي تنسيقي، يركز على التنسيق الأمني والسياسي دون مساس بالسيادة.
• المرحلة الثانية (5–10 سنوات): سوق إقليمية مشتركة، تركز على الاقتصاد والتجارة والطاقة، لأنها تحقق فوائد ملموسة للشعوب.
• المرحلة الثالثة (10–20 سنة): منظمة إقليمية شاملة، تضم الاقتصاد والأمن والتعليم والصحة والثقافة.
بهذا التدرج لن تُستفز هواجس الدول حول السيادة، وستحصل الشعوب على نتائج ملموسة، بينما تُبنى مؤسسات أكثر قوة على المدى الطويل.
خارطة الطريق والجدول الزمني
تمثل خارطة الطريق الأداة العملية لترجمة الأهداف الكبرى إلى خطوات زمنية واقعية، تتيح قياس التقدم وتوزيع الأدوار بين الدول الخمس. وهي مقسمة إلى مراحل قصيرة، متوسطة، وبعيدة المدى، لضمان التدرج وبناء الثقة قبل الانتقال إلى مستويات أعلى من التكامل.
المرحلة الأولى (2025–2027)
• تأسيس مجلس تنسيقي أعلى.
• توقيع اتفاقية إطارية للتكامل والتنمية.
• إطلاق مشاريع سريعة المردود، مثل النقل البري، وتأشيرات موحدة.
المرحلة الثانية (2028–2032)
• تأسيس بنك إقليمي.
• تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى (السكك الحديدية، الكهرباء).
• إنشاء جامعة القرن الإفريقي.
• إطلاق مشاريع صحية لمكافحة الأوبئة.
المرحلة الثالثة (2033–2040)
• إطلاق السوق المشتركة.
• التفكير في عملة موحدة.
• إنشاء برلمان إقليمي استشاري.
• تنفيذ مشاريع بيئية لمكافحة الجفاف والتصحر.
نحو ميلاد قوة إقليمية جديدة
إن مشروع تكتل القرن الإفريقي للتكامل والتنمية (HAIB) ليس مجرد رؤية حالمة، بل استجابة لضرورة تاريخية. إذا نجح، فسوف يتحول القرن الإفريقي من منطقة تُعرف بالمجاعات والحروب إلى إقليم يستقطب الاستثمارات ويؤثر في السياسات العالمية.
الأهم أن الشعوب ستشعر بأن مصيرها بات بأيديها، وأنها لم تعد مجرد موضوع لتدخلات خارجية. الجيل الشاب الذي يشكل غالبية السكان سيكون المستفيد الأكبر، حيث سيجد فرص عمل وتعليم ورؤية للمستقبل.
قد يستغرق الأمر سنوات طويلة، لكن البداية ممكنة، والإرادة الشعبية والسياسية قادرة على تحويل الحلم إلى واقع. وحينها سيصبح القرن الإفريقي شاهدًا على أن التعاون لا يصنع فقط التنمية، بل يصنع التاريخ.
والأبعد من ذلك، فإن نجاح هذا التكتل لن ينعكس فقط على الدول الخمس المعنية، بل سيشكل نموذجًا ملهِمًا لبقية القارة الإفريقية. فإفريقيا بحاجة إلى قصص نجاح، تعزز ثقة الشعوب بقدرتها على إدارة مواردها بعيدًا عن التبعية. كما أن استقرار القرن الإفريقي سيخدم الملاحة الدولية والأمن العالمي، ما يمنح هذا المشروع بعدًا دوليًا يتجاوز حدوده الجغرافية. بهذا المعنى، فإن التكامل هنا ليس مجرد مشروع إقليمي، بل هو خطوة نحو إعادة صياغة علاقة إفريقيا بالعالم على أسس أكثر عدلًا وندية.
شارك المقال
