نحو تطبيق الذكاء الاصطناعي في تعزيز الصحة العامة بالسودان

178
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

 • شهد السودان في السنوات الأخيرة تصاعدًا واضحًا في التحديات الصحية التي تتسم بتعقيد وتنوع غير مسبوق؛ من وتشّعب أنماط تفشّي الأمراض المعدية مثل الملاريا والكوليرا وحمى الضنك، إلى تبعات النزوح والتهجير القسري في المناطق المتأثرة بالنزاع، مما أدى إلى تدهورٍ ملحوظ في البنى التحتية الصحية وتفاوت حاد في الوصول إلى الخدمات بين الحضر والريف. إلى جانب ذلك، يعمل ارتفاع معدلات الأمراض غير المعدية، كالسكري وأمراض القلب والأوعية، على زيادة العبء على المنظومة الصحية، في وقت تعاني فيه الموارد البشرية والطبية من نقصٍ حادّ وضغوطٍ مالية كبيرة.

في هذا السياق، بات استثمار الكمّ الهائل من البيانات المتوفرة عبر السجلات الصحية الإلكترونية، والمسوح الوبائية، والبيانات البيئية والديموغرافية ضرورة استراتيجية. يوفر توظيف الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة فرصةً فريدةً للارتقاء بقدرات التحليل والتنبؤ، بحيث يمكن للمسؤولين الصحيين الاستباق في الكشف عن البؤر الوبائية، وتوجيه الموارد بدقة، وتصميم تدخلات مخصصة تراعي خصوصية البيئات المحلية.

وتهدف خارطة الطريق هذه إلى تقديم إطار عملي متكامل لبناء البنية التحتية الرقمية في السودان، وتطوير نماذج ذكاء اصطناعي محكمة، وضمان دمجها بسلاسة في عمليات صنع القرار الصحي، مع مراعاة أهم معوقات التنفيذ وسبل التخفيف منها.

مصادر البيانات في السودان

لضمان فعالية النماذج، يجدر توسيع مصادر البيانات لتشمل:

– السجلات الصحية الإلكترونية: تسجيل الزيارات الطبية، التشخيصات، نتائج المختبرات وخطط العلاج، مع تحديث فوري يتيح تتبع تطورات المرضى.

– برامج المسح الوبائي الميداني: بيانات جمعها متطوعون وصحة المجتمع لرصد انتشار الأمراض وفهم عوامل الخطورة على مستوى القرى والمناطق الحضرية.

– بيانات التلقيح: سجلات التطعيمات المدرجة ضمن الأنظمة الحكومية ومنصات الأمم المتحدة، ضرورية لتقييم التغطية المناعية وتحديد الفجوات الجغرافية.

– مؤشرات البيئة والمياه: معلومات عن جودة المياه الصالحة للشرب، تركيز الملوثات، مستويات الأمطار ودرجات الحرارة التي تؤثر في نشاط البعوض ونقل الأمراض.

– المسح الديموغرافي والاجتماعي: بيانات التعداد السكاني، معدلات الفقر، ومستويات التعليم تسهم في رصد الفئات الأكثر هشاشة وتخصيص تدخلات موجهة.

التقنيات الرئيسية

1. التنبؤ الزمني  (TimeSeries Forecasting)

نماذج LSTM وProphet  تلتقط الاتجاهات الموسمية والدورية في أعداد الإصابة، مما يتيح توقع الموجات الوبائية قبل وقوعها بفترة كافية.

2. النمذجة المكانية  (Spatial Modelling)

خوارزميات DBSCAN وMoran’s I تحدد البؤر الوبائية بدقة عالية، وتترجم الاكتشافات إلى خرائط حرارة (heatmaps) لتوجيه الفرق الميدانية.

3. تصنيف المخاطر (Risk Stratification)

نماذج Random Forest وXGBoost تصنف المرضى والفئات السكانية حسب احتمالية التعرض لمضاعفات، مما يساعد في ترتيب أولويات الرعاية.

3. معالجة اللغة الطبيعية  (NLP)

تحليل تقارير الصحة العامة، الأخبار المحلية، ومنشورات التواصل الاجتماعي لاكتشاف الشكاوى المبكرة والأخبار عن تفشيات محتملة قبل الإعلان الرسمي.

4. التعلم التعزيزي  (Reinforcement Learning)

محاكاة سيناريوهات توزيع اللقاحات والموارد في المراكز الصحية لضبط السياسات الميدانية وتحقيق أقصى استفادة من القدرات اللوجستية.

حالات الاستخدام في السودان

– الكشف المبكر عن تفشيات الكوليرا

عبر دمج بيانات جودة المياه مع نماذج التنبؤ الزمني، يمكن إصدار إنذارات مسبقة للسلطات المحلية قبل وصول المرض إلى ذروته.

– تحسين توزيع اللقاحات

استخدام خوارزميات تخصيص ديناميكي لضمان وصول لقاح شلل الأطفال وحمى الضنك إلى المناطق ذات التغطية الأقل، مع تقليل الهدر ونقص المخزون.

– رصد تأثير التغير المناخي على الملاريا

بدمج متغيرات الطقس والرطوبة مع بيانات الإصابة، تُحتسب مؤشرات تنبؤية للتدخلات الميدانية وتقليل نسبة الوفيات.

– توجيه فرق التدخل السريع في مناطق النزاع

الاستعانة بصور الأقمار الصناعية وبيانات النزوح لاستنباط أولويات الرعاية الصحية وتوزيع الإمدادات العاجلة.

خارطة طريق التنفيذ

1. بناء البنية التحتية للبيانات

توحيد المعايير: اعتماد FHIR وHL7  في تسجيل البيانات والمصطلحات الطبية لضمان التواصل بين الأنظمة.

مستودع مركزي آمن:  تصميم قاعدة بيانات وطنية قابلة للتوسع مع ضمان تشفير البيانات وتحديد صلاحيات الدخول.

تعزيز الشبكات:  توفير حواسيب وأجهزة تخزين للمراكز الريفية، وربطها بشبكة إنترنت مستقرة مدعومة بخدمات الأقمار الصناعية عند الضرورة.

2. تطوير النماذج وتجربتها

شراكات بحثية:  عقد اتفاقيات تعاون مع جامعات مثل جامعة الخرطوم والخرطوم للعلوم والتكنولوجيا، ومنظمات مثل منظمة الصحة العالمية.

مشاريع تجريبية: تنفيذ نموذج للكشف المبكر عن الكوليرا في دارفور، وآخر لمتابعة حمى الضنك في النيل الأزرق.

منهجية علمية: استخدام تقسيم بيانات للتدريب والاختبار، وتطبيق الـcrossvalidation لضمان استقرار النموذج.

3. دمج النتائج في صنع القرار

لوحات قيادة تفاعلية: عرض مؤشرات الحالة والإنذارات على مستوى الولايات باستخدام أدوات تعبيرية بسيطة.

تدريب الكوادر: ورش دورية لمسؤولي الصحة عن تفسير نتائج النماذج وفهم حدود الثقة والاعتماد على البيانات في التخطيط.

تكامل الأنظمة:  ربط هذه اللوحات بمنصات إدارة الأوبئة القائمة (DHIS2) لتجنب ازدواجية الجهود.

4. التقييم والمراجعة المستمرة

مراقبة انحراف النموذج:  رصد الأداء عند وصول بيانات جديدة وإعادة التدريب الدوري.

جلسات مراجعة نصف سنوية: مشاركة خبراء البيانات والأوبئة وممثلين عن المجتمع المحلي لتبادل النقاشات والدروس المستفادة.

تعديل المعايير:  تحديث المتغيرات المنظورة في النماذج بما يتناسب مع تطورات الظروف المناخية والاجتماعية.

التحديات واستراتيجيات التخفيف

ضعف البنية الرقمية في المناطق النائية

توفير حواسيب لوحية تدعم إدخال البيانات ميدانيًا وربطها عبر الأقمار الصناعية.

نقص الخبرات الفنية

إطلاق برامج تدريب معتمدة بالتعاون مع الجامعات والمنظمات الدولية، وتقديم منح بحثية للمتخصصين الشباب.

مخاوف الخصوصية وافتقار الثقة

تبنّي أساليب الخصوصية التفاضلية  (Differential Privacy)، وإشراك قيادات المجتمع في حملات توعية لضمان قبول واسع.

تمويل محدود واستدامة

تنويع مصادر التمويل عبر شراكات مع جهات مانحة دولية وصناديق استثمار التقنية الصحية.

توصيات

– البدء بمشاريع مصغرة في الولايات الأعلى جاهزية ثم التوسع تدريجيًا.

– تأسيس وحدة وطنية للذكاء الاصطناعي الصحي بوزارة الصحة لتنسيق الجهود وتوحيد المعايير.

– تعزيز الشراكات متعددة القطاعات مع منظمة الصحة العالمية والقطاع الأكاديمي والقطاع الخاص.

– وضع سياسات واضحة لإدارة ومشاركة البيانات، مع إرشادات صارمة لحماية خصوصية المرضى.

– قياس الأثر عبر مؤشرات أداء رئيسية (مثل انخفاض معدل الوفيات وسرعة الاستجابة) لضمان تحقيق العائد المرجو.

يشكّل توظيف الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة في الصحة العامة بالسودان خطوة تحويلية تضع البلاد في طليعة الدول النامية التي تستفيد من قوة البيانات في صياغة السياسات الصحية. من خلال تأسيس بنية تحتية رقمية متينة، وتوحيد معايير تسجيل البيانات، وتطوير نماذج تنبؤية ومكانية دقيقة، ودمج المخرجات في عمليات صنع القرار اليومي، تتعزز قدرة السودان على:

1. الكشف المبكر والتنبؤ بتفشيات الأمراض قبل وقوعها وتحجيم الخسائر الإنسانية.

2. تخصيص الموارد بشكل مستدام يضمن وصول الإمدادات للرعاية العاجلة إلى الفئات الأشد هشاشة.

3. تصميم تدخلات مستهدفة تراعي الاختلافات البيئية والاجتماعية بين الولايات.

4. بناء القدرات المحلية عبر التدريب والشراكات البحثية لضمان استمرارية التطوير والتكيف مع المتغيرات.

ومع تطبيق آلية مراجعة وتحديث مستمرة تضمن بقاء النماذج على صلة بالواقع، وتبني سياسات واضحة لحوكمة البيانات تحمي خصوصية المرضى وتكسب ثقة المجتمعات، يمكن للسودان أن يؤسس لمسار صحي رقمي مستدام. ويعد ذلك الأساس لبناء منظومة صحية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية بمرونة وفعالية، ترفع من مستوى الرفاه والصحة العامة لكل مواطن ومواطنة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *