معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في زمنٍ تتسارع فيه الحياة، وتضج الأزقة بالأقدام الراكضة نحو أهدافٍ لا تهدأ…!

نصطدم كل يوم بمفارقةٍ غريبة «ازدحام الأمكنة وفراغ الأرواح».

نقابل العشرات، نبتسم كثيراً، لكننا لا نشعر بقربهم، لا نسمع دقات قلوبهم، ولا نجد دفئاً في كلماتهم.

وربما هناك من يكون بعيداً مسافةً، لكن صوته وحده يربت على تعبك، وكلماته تفكّ عُقد روحك وكأنّه يعيش داخلك في كل لحظة.

ذاك هو القرب الحقيقي…!

قرب لا يُقاس بالمسافة بل بالنبض …! لا بعدد اللقاءات بل بصدق الإحساس…!

القرب الحقيقي يا صديقي ليس أن يجلس أحدهم بجانبك، بل أن يراك بعين قلبه حتى وإن أغمض عينيه. أن يشعر بك وإن لم تتكلم، وأن يرسل إليك دفئاً من خلف الحروف كأنّه يعيد ترتيب فوضاك الداخلية دون أن يراك.

فهل هناك احتضان أصدق من كلمة قيلت في الوقت المناسب..؟ 

وهل هناك دفء أعمق من سؤال بسيط: «كيف حالك اليوم؟». 

كلنا نبحث عن الأمان، لكننا نخطئ حين نظنه في الأجساد القريبة، وفي الأصابع المتشابكة، أو في الكتف المتاح حين نميل.

الأمان الحقيقي يُولد من ذلك القرب الذي لا تراه العيون، لكنه يُلمس في التفاصيل الصغيرة…!

في دعاءٍ لا تدري متى قيل…! وفي رسالةٍ وصلتك وأنت على وشك الانهيار…!  وفي صوتٍ هادئ يقول: «أنا هنا… حتى إن لم ترني». 

الذين يمنحونك من قلوبهم ملاذاً هم القريبون حقاً.

هم الذين يتسللون إليك دون أن يطرقوا، ويقيمون فيك دون أن يُزاحموا أحداً. يخبئونك من العالم حين تتعب ولو بكلمة ولو بصمتٍ يشبه حضن أُم. وقد يحدث أن يكون أقرب الناس إليك هو أبعدهم مسافة، ولكنه قرأك جيداً، وسمعك من بين السطور، واحتضنك حين لم تجد كتفاً.

ذاك هو القرب الذي لا يُشترى ولا يُفتعل…!  بل يُمنح من روحٍ عرفت معنى الحنان الخالص. فلنكن صادقين…! 

هل رأينا يوماً كيف أنّ كلمة واحدة قد تُحيي قلباً…!؟

وكيف أن همسة صادقة قد تكون أثمن من حضنٍ بارد…!؟

هناك من يمدّ يداً دافئة من خلف الشاشات…!

وهناك من يغلق قلبه حين تُغلق الأبواب…!

المسافة لا تعني شيئاً حين يربطك خيط من الحُبّ النقي، والاهتمام الصامت  والحنان الذي لا يطالب بشيء.

القرب ليس حيث الأجساد تتجاور، بل حيث القلوب تتعانق في صمت.

حيث تصبح الكلمات أعمق من العناق، والصوت حضناً، والرسالة يداً تمتد كي لا نسقط. نحن لا نُهزم ببعد الطريق، بل نُبعث بقرب الأرواح. نحن في قلب كلّ مسافة نحب، ننتظر ونعيش. لأن القلوب حين تُخلص تخلق قربها الخاص، وتُنبت الورد على رصيف الغياب.

إنّ الحياة هي أيام سوف تمضي، فالنعشها بصدقها ومحبتها ونقائها.

فالعبرة ليست في عدد أيام الحياة التي نعيشها، ولكن كيف نعيشها…!

وتذكرني هنا مقولة فقيدنا الحبيب بروف صلاح حسن إدريس- عليه الرحمة والرضوان- حين كان  يحدثني عن الحياة وأيامها وكيف تعاش: «يا معتصم يا أخوي الحياة  Quality, not quantity«.

فيا من جمعتنا بكم الأرواح لا الطرق، وضمّتنا الحروف لا الأكتاف. نحن لم نعد نبحث عن وجود مادي، بل عن وطنٍ عاطفي نسكنه ويُسكننا.

نحن معاً حتى إن فرّقتنا الجغرافيا. نحن معاً لأننا نحب بنفس النبض.

ولأننا نعرف أن أقصر طريق إلى القلب… ليست الخطوة بل الكلمة الحنينة. مهما ابتعدنا نحن أقرب…!!

نحن قلبٌ واحد بنبضٍ لا يعترف بالمسافات.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *