من يكتب للناجين؟ سردية الضحية وصمت النخبة في سياق الحرب السودانية

68
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

 مقدمة: الناجي بلا صوت

في خضم المآسي المتلاحقة التي يشهدها السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، وبين الضجيج العالي للمدافع، والدمار الذي طال البشر والحجر، يظهر سؤال قاسٍ لكنه ضروري: من يكتب للناجين؟ من يسرد آلامهم، ويترجم صمتهم، ويعيد لهم ما سُلب من كرامة وحق في الظهور؟ ففي بلد تهاوت فيه مؤسسات الدولة، وانقسمت فيه الجغرافيا والذاكرة، لم يعد الضحية فقط من مات، بل أيضاً من نجا دون أن يُرى أو يُسمع.

لقد امتلأت الأخبار بالتقارير عن أعداد القتلى، وخرائط النزوح، والإحصائيات الصماء، لكنها لم تُعِر اهتماماً كافياً لأولئك الذين ظلّوا أحياء، يتنفسون على حافة الموت، يحملون في وجدانهم صدمة البقاء، ويكابدون يومياً من أجل النجاة الجسدية والنفسية. الناجي ليس فقط ذلك الذي فرّ من القصف، بل هو من فقد عائلته، أو أحلامه، أو حتى صورته القديمة في المرآة.

في السودان، آلاف الناجين يعيشون اليوم بلا صوت، بلا نص يحفظ معاناتهم، أو منصة تسألهم: «كيف عشت؟ ما الذي بقي منك بعد كل هذا الدمار؟» يعيشون في معسكرات النزوح، أو في مدن غريبة عنهم، أو في صمت لجوء طويل لا يسمعه أحد. يبتلعون أحزانهم في صمت، في انتظار من يكتب عنهم، لا من أجل الشهرة أو الإثارة، بل من أجل الاعتراف بوجودهم، وإنسانيتهم، وتجربتهم التي تمثل شهادة حيّة على ما جرى.

في زمن الحرب، تُسلّط الأضواء على العواصم المتنازَع عليها، على القادة، على المفاوضات، بينما يتم تجاهل من هم في قلب الجحيم: المواطن البسيط، الأم التي تبحث عن حليب لطفلها، الفتى الذي توقّف عن الدراسة ليعيل أسرته، العجوز التي ضاعت منها خريطة المكان والزمان.

هذا المقال ليس عن السياسة، ولا عن خرائط السيطرة، بل عن أولئك الذين نجوا، لكنهم ما زالوا غارقين في رماد التجربة. هو دعوة لفتح مساحة جديدة في السرد السوداني – مساحة للناجين، لحكاياتهم، لدموعهم، لصمتهم الثقيل. فليس كل من نجا، عاش. وبعض الصمت، أبلغ من الرصاص.

السودان الجريح: مشهد من رماد

الخرطوم، العاصمة التي لطالما مثّلت نبض السودان، تحوّلت إلى مدينة أشباح. أحياء كاملة مثل الكلاكلة وامتداد ناصر والجريف شرق، تحوّلت إلى ساحات للقتال والخراب. مدن مثل الفاشر ونيالا وزالنجي أصبحت صوراً حية من مآسي الحرب الأهلية. لا كهرباء، لا ماء، لا دواء. فقط أصوات الرصاص، وصدى المآسي. في هذا المشهد، تعالت أصوات الجنرالات، وتكاثرت تحليلات الخبراء، لكن ظلّت سردية الناجين – أولئك الذين عاشوا الفقد والرعب والانكسار – غائبة، كأنهم مجرد أرقام في نشرات الأخبار، أو ملاحق إغاثية بلا أسماء.

من هم الناجون؟

الناجون هم الذين ساروا مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام بحثاً عن الأمان. هم من اختبأوا تحت الأسرّة وفي الحمامات بينما الصواريخ تنهمر فوق رؤوسهم. هم من دفنوا أبناءهم في الفجر بلا كفن، وهربوا. هم الأمهات اللواتي أنجبن في العراء، والمعلمات اللواتي حولن قاعات المدارس إلى ملاجئ، والشباب الذين فقدوا جامعاتهم وفرص تعليمهم وتحولوا إلى نازحين في الداخل أو لاجئين على الحدود.

خذ مثلاً «أم سارة»، نازحة من الجنينة، فقدت زوجها في هجوم على الحي، ثم اضطرت لحمل أطفالها الثلاثة عبر الحدود إلى تشاد، حيث يعيشون الآن في خيمة بلا ماء نظيف أو خدمات صحية. أو «محمد»، طالب طب من الخرطوم، حوصر في الجامعة لأيام، ثم خرج ليجد أن منزله دُمّر، وعائلته تفرقت. أو «آمنة»، التي فقدت ساقها في قصف جوي، وتعيش الآن على كرسي متحرك في معسكر بمدينة مدني، دون رعاية طبية مستدامة.

وهناك «ليلى»، فتاة من جنوب الخرطوم، كانت تحلم بأن تصبح صحفية، لكنها اليوم تغسل الملابس في بيوت النازحين مقابل وجبة لأخيها الصغير. أو «عثمان»، طفل لاجئ في أثيوبيا، يخط على الرمال خارطة السودان ويقول للمارّة: «أنا من هنا… لكنهم حرقوا بيتنا».

الضحية حين تُهمّش

أن تكون ضحية في السودان اليوم لا يعني فقط أنك فُجعت، بل أيضاً أنك صرت خارج الحكاية. فالسرديات الكبرى للحرب تُكتب بلغة العسكر، أو تقارير المنظمات. أما صوت الأم التي دفنت طفلها تحت القصف، أو الشاب الذي شاهد أصدقاءه يموتون، أو الطالبة التي كانت تراجع للامتحان حين ضربت القذيفة غرفتها، فلا يجد من يرويه. هنا تظهر أزمة أخلاقية وثقافية: هل فقدنا القدرة على الإصغاء؟ أم أن النخبة لم تعد ترى في صوت الضحية مادة للكتابة والتفكير؟

صمت النخبة:  تواطؤ أم عجز؟

في أوقات الأزمات، يُنتظر من المثقف أن يكون شاهداً لا شاهِد زور. لكن ما رأيناه من كثير من النخب السودانية – للأسف – كان إما صمتاً مريباً، أو اصطفافاً مع طرف سياسي أو عسكري، أو انشغالاً بتحليل المشهد من أبراج عاجية، بلا أدنى اتصال مع المعاناة اليومية للسودانيين. بعض الكتّاب والمفكرين، بدلاً من التنديد بالمذابح والانتهاكات، اختاروا لغة مائعة، تساوي بين الجلاد والضحية، أو تبرر الوحشية باسم «ضرورات المرحلة».

يكتب أحدهم مقالة عن «المعادلة الجيوسياسية في البحر الأحمر»، بينما لا يذكر أن مئات الأسر السودانية تنام كل ليلة في العراء، على بعد أقل من 10 كيلومترات من الميناء. وتُعقد ندوات فكرية حول «الدولة ما بعد الحرب»، دون أن تُخصَّص دقيقة واحدة للحديث عن الأطفال الذين توقّف تعليمهم، أو النساء اللواتي فقدن المعيل.

السردية كأداة للبقاء والمقاومة

في السودان، كانت الأغنية والقصيدة دوماً جزءاً من الذاكرة الجماعية. لكن أين أغاني الحرب الحالية؟ أين القصائد التي تتحدث عن الناجين لا القادة؟ في أغنية «والله وحدو بينا»، يغني ثنائي العاصمة عن الفقد والحنين بأسى يلامس قلب كل سوداني. لكنها اليوم صارت أكثر من أغنية، صارت مرآة وطن منكوب، وصوتاً لما لا يُقال.

كتابة السردية ليست مجرد فن، بل هي فعل مقاومة. مقاومة للطمس، للنسيان، للتهميش. أن تُسرد القصة من زاوية الناجي لا القائد، ومن لسان المكلوم لا المحلل، هو إعادة لتوازن العدالة الرمزية. والكتابة عن الضحية ليست شفقة، بل عدالة.

ذاكرة البلاد لا تكتمل إلا بشهادات الناجين

قد يأتي يوم تُعرض فيه هذه الحرب في المتاحف، وتُدرّس في الجامعات. حينها، لن يُسأل فقط عن من أطلق الرصاص، بل عن من صمت. وسيكون من المؤلم أن يجد الناجون أن أحداً لم يكتب عنهم، لم يوثق آلامهم، ولم يعترف بجراحهم.

إن بناء ذاكرة وطنية حقيقية لا يتم بتقارير المنظمات وحدها، بل بسرديات شخصية، بشهادات الناجين، برسائل الأمهات، برسومات الأطفال، بمذكرات من فقدوا أحبّاءهم. هذا ما يعيد للبلاد ملامحها الإنسانية.

نحو مشروع للكتابة عن الناجين

إن واجب اللحظة الآن أن تطلق المبادرات الأدبية والبحثية لتوثيق سرديات الناجين. يمكن للجامعات، وللصحافة الاستقصائية، وللمنصات الثقافية، وللأدباء، أن يبادروا في:

• جمع الشهادات الصوتية والكتابية من معسكرات النزوح واللجوء.

• إطلاق سلسلة مقالات «رسائل من الناجين».

• تشجيع الناجين أنفسهم على كتابة يومياتهم ونشرها.

• تحويل هذه القصص إلى أعمال مسرحية وأفلام وثائقية.

• إنشاء أرشيف رقمي لذاكرة الحرب يُكتب فيه من كان على هامش الرواية الرسمية.

• تقديم منح صغيرة للشباب من معسكرات النزوح ليرووا قصصهم بلغتهم وصورهم.

• إنشاء بودكاست أسبوعي يسلط الضوء على قصص الفرد العادي، الناجي، المكلوم، القوي رغم الانكسار.

من لا يُكتب له، يُنسى

الناجون ليسوا صامتين لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأن من يملك المنصة لا يمنحهم المساحة. والكتابة ليست ترفاً فكرياً في زمن الكارثة، بل واجب أخلاقي، وربما إنساني قبل أن يكون وطنياً. من يكتب للناجين اليوم، يفتح نافذة في جدار الصمت، ويمنح من عاش التجربة حقه في أن يكون جزءاً من السرد لا مجرد ظلّ على الهامش. السودان ليس فقط وطناً تدمّرت بناه التحتية، بل وطن تكسّرت فيه الأرواح، وتشققت فيه الذاكرة، وتبعثرت فيه الرواية. وإن لم نكتب عن الناجين اليوم، فإنهم سيتحولون إلى طيف في حكاية لا تُروى، وصورة باهتة في تاريخ يُكتب من فوق لا من تحت.

بلاد مثل رواندا والبوسنة وألمانيا ما بعد الحرب، لم تبدأ تعافيها إلا حين فتحت أرشيف الذاكرة، وكتبت عن الفرد قبل المؤسسة، وعن الأم الثكلى قبل القائد العسكري، وعن صغار الناجين قبل كبار المتحدثين. فهل نتعلّم نحن من تلك التجارب؟ هل نمنح الناجي حق الحكي قبل أن تنطفئ جذوة شهادته، ويُغلفها النسيان؟

إن توثيق المعاناة ليس استثماراً في الألم، بل هو بناء لجسر العدالة، والمصالحة، والكرامة. من يكتب اليوم، يُرسي حجر الأساس لوعي جديد، لوطن لا يُدار بالحرب والصمت، بل بالصدق والتوثيق والاعتراف.

ففي زمن الانهيار، لا تُقاس الوطنية بالكلام الجميل، بل بالموقف الصلب. والمثقف الذي لا يقف الآن، قد لا يجد في المستقبل من يستمع له بعد أن تخونه الذاكرة والناس والضمير.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *