من لم يمت بيد الجنجويد مات بغيرها

76
ناجي الجندي

د. ناجي الجندي

كاتب صحفي

• لأننا كنا طيبين، لم يبقِ الجنجويد شيئاً لم يفعلوه، ولو كان الكيزان أسوأ من مرّ على نعش بلادنا فقد نافسهم في المقام هؤلاء الجنجويد، وقصص الجنجويد من كثرتها ودهشة السامعين لها أصبحت مادة غثة لا تستحق حتى الكتابة، ذلك لأن (كترة الطلة بتمسخ خلق الله)، وكثرة الكتابة في مشاهد مكررة كل ساعة ترهق القرطاس والقلم.

فمن لم يمت بطلقة الجنجويد مات بحسرتهم، ومات بمغصتهم، ومات في طريقه للنزوح، ومات في طريقه لإنقاذ عِرضه وشرفه، ومات لموت عزة نفسه، إذ أصبح مقهوراً يستجدي الآخرين لقمة العيش وسد رمقه بحفنة قريشات تستر أصوات بطنه وذويه.

موظفون لم تُصرَف لهم مرتبات منذ سنتين، وموظفون تائهون من ظل لظل، فشلت كل محاولاتهم ليعيشوا كبشر، وهذا بفضل الجنجويد القتلة، ولا نخفي سراًِ حين نؤكد أن منهم من تمنى الموت على هذا الحال، ومنهم من هام بالطرقات يكلم نفسه، وحال أعمال توقفت فتوقف بعدها الأمل في العيش الكريم، نحن شعب طيب ولكن سوء الظن من حسن الفطن، وهذا حسنٌ لم نتقنه كبشر، فالبشر خليط بين خير وشر، ونحن شعب ليس فينا إلا الخير، لذلك لم نفلح.

نُسِبَ للإمام الشافعي وقيل لغيره:

لا يكن ظنك إلا سيئاً إن سوء الظن من أقوى الفطن 

ما رمى الإنسان في مخمصة غير حسن الظن والقول الحسن 

وقيل: سوء الظن من الحزم

عُرِف السوداني منذ خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ بعزةِ نفسه وكرامته، وارتضاء الموت عن أن يقول (لله يا محسنين)، واليوم قلناها ونُعذَر عليها، فلا لائم ولا ملوم لأن الحالة كما قالها طه حسين في (شجرة البؤس) لا تثريب عليكم.

مات السودانيون ظلماً، وتَرْكُ حقهم في جب الجنجويد ظلم آخر، ومن قال (لا للحرب) قال (لا للقصاص)، ولو خُيرنا كجيل بين إبادتنا جميعاً وأن ننظر في وجوه هؤلاء السفلة لاخترنا الفناء، نحن لسنا سياسيين، ولكنا نحب الوطن، وحب الوطن من الدين؛ فقد حزن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما فارق وطنه (مكة) وتكلم في ذلك.

غداً نعود، حتماً نعود، للقرية الغناء للكوخ الموشح بالورود، ونسير فوق جماجم الأسياد مرفوعي البنود، والأطفال ترقص والصغار والنخل والصفصاف والسيال زاهية الثمار، وسنابل القمح المنور في الحقول وفي الديار، لا لن نحيد عن الكفاح، ستعود الخرطوم لنا وتعود أنغام الصباح.

نعم ستمر هذه الظروف ونعود كرماء كما كنا، ولكن لا بد أن نعي الدرس، ولا بد أن (نتوسخ) شوية، لن نسرق ولن نقتل ولن ننهب ولن نكذب ولن ننافق ولن نخون لكننا سنسيء الظن، لأنه:

وحسنُ الظنِّ يحسنُ في أُمورٍ ويمكنُ في عواقبِه ندامه

وسوءُ الظنِّ يسمجُ في وجوهٍ وفيه مِن سماجتِه حزامه

واحذر الحليم إذا غَضِب، واحذر الطيب إذا انتفض، علينا كشعب أن نتعلم ولا معلم أكثر من الحروب، فالفناء في نجازاكي صنع دولة عظمى هي اليابان، والفناء في الحرب الأهلية الأمريكية صنع دولة عظمى هي أميركا، والفناء في الاتحاد السوفيتي صنع دولة عظمى، فإن كان في الحرب خير واحد فهو (التعلم)، وما أقساه من معلم، فجرعة الدواء المرة تعالج ولا تقتل، فعلينا أن نطيع المعلم، ونستمع لنصحه، ونعي درسه، أو نبك كالنساء وطناً لم ندافع عنه كالرجال.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *