من قليبو الجافي: غناء العشق الذي صار مرثية وطن في زمن الحرب (فيديو)

109
زهرمان
Picture of أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

المقدمة

• في تاريخ الغناء السوداني، هناك نصوص تجاوزت حدود الفن لتصبح جزءًا من الضمير الجمعي، تنبض بالحياة مع كل جيل وتستعاد في كل منعطف تاريخي. من بين هذه النصوص تبرز رائعة الشاعر الغنائي صالح عبد السيد (أبو صلاح) «من قليبو الجافي». وُلدت هذه الأغنية في بدايات القرن العشرين ضمن مدرسة الحقيبة، التي جمعت بين جزالة اللغة العربية الفصحى وثراء التعبير الشعبي السوداني. كانت في أصلها نشيدًا للحب والوجد الشخصي، غناءً للعاشق الذي لا يستطيع الفكاك من حب مضى ولا زال يترك في قلبه جراحًا غائرة.
غير أنّ النص، بثرائه الرمزي وعمقه الوجداني، ظل حيًّا، قابلاً لإعادة التفسير والتأويل. ومع اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، والتي حوّلت البلاد إلى ساحة نزوح وجراح وأحلام مكسورة، صار من الممكن النظر إلى هذه الأبيات من منظور جديد. فجراح الحب صارت جراح وطن، والدموع الفردية تحولت إلى دموع شعب بأكمله. الأغنية التي تغنّى بها الناس في مجالس الطرب باتت اليوم أشبه بمرثية وطنية تعكس حال السودان الجريح. إنّ إعادة قراءة هذا النص تكشف لنا أن الفن الأصيل ليس ابن لحظة واحدة، بل هو كائن حي يعيش معنا ويتشكل بحسب تجاربنا وظروفنا.

الحقيبة وعبقرية أبو صلاح

الحقيبة ليست مجرد مرحلة في الغناء السوداني، بل هي مدرسة جمالية وفكرية تشكّلت في قلب الخرطوم وأم درمان في بدايات القرن العشرين. اعتمدت على الصور الشعرية الممزوجة بالعامية السودانية، لكنها كانت ذات صلة مباشرة بالموروث العربي الفصيح. أبو صلاح كان من أبرز أعلامها، وصاغ نصوصاً أصبحت علامات مضيئة مثل «من قليبو الجافي» و«الليل الهادي».
عبقرية أبو صلاح تكمن في قدرته على المزاوجة بين البساطة والعمق. فهو يستخدم مفردات مألوفة: النسيم، البان، الدموع، لكنه يحمّلها شحنة وجدانية تجعلها قادرة على تجاوز لحظتها التاريخية. هذا ما يفسر بقاء نصوصه حيّة حتى اليوم. بل إن المتأمل يجد أن كل جيل سوداني يكتشف في أشعاره معنى جديداً، لأنها تنطوي على طاقة رمزية تسمح بالتأويل المستمر.

صور العشق والوجع

الأغنية تقوم على محاور أساسية، لكن كل محور يكشف عن طبقات من المعنى.
أولاً، الشوق والحنين: «يا نسيم مابالك تتني قامة البان». هذه ليست مجرد صورة شاعرية بل هي بناء كامل لعلاقة بين الطبيعة والإنسان. النسيم هنا ليس نسمة عابرة، بل رسول يفضح حال العاشق ويكشف اضطراب مشاعره.
ثانياً، الألم الغامض: «هل دا جرح بالغ أم دا سم ثعبان؟». السؤال البلاغي يختصر مأساة العاشق الذي لا يعرف طبيعة ما يشعر به. الجرح يوحي بالصدمة المباشرة، أما السم فيوحي بالمعاناة البطيئة التي تتغلغل في الجسد. هذه الثنائية بين الفجائي والبطيء تعبّر عن طبيعة الحب نفسه، حيث الألم قد يكون لحظة أو قد يكون حياة كاملة.
ثالثاً، ثبات الحب: «يا الغرامك حل ورحل.. قلبي لا يسلاك ولا يطيق نكران». هنا يعلن العاشق وفاءه المطلق، فهو لا ينكر ولا ينسى. هذه العبارة تشكّل قَسَماً عاطفياً يجعل النص أقرب إلى مرثية صوفية للحب.
رابعاً، دموع العين: «بين شاهد جفني البي الدموع كران». الدموع تتحول إلى دليل إثبات، كأنها وثيقة عاطفية لا يمكن الطعن فيها.
بهذا البنيان، يرسم أبو صلاح لوحة متكاملة للعاشق الموجوع، حيث تتحول الطبيعة إلى لغة ثانية تعكس عمق التجربة الإنسانية.

الحرب وإعادة المعنى

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، تحولت حياة الملايين إلى رحلة من الفقد، النزوح، الجوع، والانكسار. في هذا السياق، تبدو كلمات أبو صلاح وكأنها كُتبت لوصف حال الوطن اليوم، لا حال العاشق وحده.
«يا نسيم مابالك تتني قامة البان»: النسيم هنا لم يعد نسيم الصباح الرومانسي، بل رياح الحرب التي حطمت قامة الوطن. السودان، كالبان، كان شامخاً رشيقاً، فإذا به يهتز تحت وطأة الرصاص والانقسام.
«هل دا جرح بالغ أم دا سم ثعبان؟»: الجرح هو الدماء التي أُريقت، والسم هو استمرار النزاع الذي يفتك بالبلاد ببطء. السؤال البلاغي يتحول إلى سؤال وطني وجودي: هل ما نعيشه جرح يمكن التئامه، أم سم قاتل قد يودي بكيان الوطن كله؟
«قلبي لا يسلاك ولا يطيق نكران»: هنا يصبح الحب حبّ الوطن. رغم النزوح والشتات، يبقى السوداني متمسكاً ببلاده، رافضاً أن يتنكر لها حتى لو أدار له العالم ظهره. هذه العبارة تتحول إلى شعار وجداني للمغتربين واللاجئين الذين هُجّروا قسراً لكن ظل السودان في قلبهم.
«بين شاهد جفني البي الدموع كران»: دموع العاشق في النص الأصلي تصير اليوم دموع الشعب السوداني: دموع الأمهات على أبنائهن، دموع الأطفال في المعسكرات، ودموع المدن المدمرة التي تبكي حجارتها. هي الدليل الذي لا يحتاج إلى بيان على فداحة المأساة.

من الغرام الفردي إلى الوجع الجمعي

تجربة الحرب جعلت الأغنية تتجاوز معناها الفردي لتصبح نصاً وطنياً. ما كان عن الحبيب صار عن الوطن، وما كان عن ألم العاشق صار عن ألم الملايين. الأغنية، بهذا المعنى، لم تفقد هويتها الغزلية بل اكتسبت طبقة جديدة من الدلالات، وكأنها نص حيّ قادر على التجدّد عبر الأزمنة.

الألم الغامض

«هل دا جرح بالغ أم دا سم ثعبان» تكاد تُلخّص تاريخ السودان السياسي والاجتماعي منذ الاستقلال.
• الجرح البالغ: هو كل أزمة كبرى تفجّرت بشكل مباشر وعنيف: انقلاب عسكري، حرب أهلية، مجاعة، أو انفصال. هذه الأزمات مثل الطعنات التي تُصيب الجسد فجأة وتترك أثرًا واضحًا.
• سم الثعبان: هو الأزمات التي تتسلل ببطء في جسد الوطن: الفساد الإداري، الفقر المتراكم، التهميش الإقليمي، تفكك النسيج الاجتماعي، وسياسات تُدار بعقلية ضيقة. هذه ليست ضربات لحظية، بل سموم طويلة الأمد تنهك السودان من الداخل.
عندما نقرأ البيت في هذا السياق، يبدو وكأن أبو صلاح – وهو يصف ألم العاشق – كان يضع يده على جوهر مأساة السودان: وطن دائم التردد بين الكوارث الفجائية والسموم البطيئة، وكلاهما يهددان بقاءه.
وبالتالي، النص ليس فقط غناءً للحب، بل يمكن أن يكون أيضًا تشخيصًا شعريًا للوجع الوطني:
• هل أزمات السودان هي مجرد جروح قابلة للالتئام مع مرور الوقت؟
• أم أنها سمٌّ يتغلغل ببطء، ينهك مؤسساته ويُضعف مقاومته حتى يفقد قدرته على التعافي؟
هذا السؤال لا يزال مطروحًا حتى اليوم، خاصة مع الحرب الدائرة منذ أبريل 2023، التي جمعت بين الاثنين: جرح مباشر في المدن والقرى، وسم ممتد يهدد المجتمع بالانهيار على المدى البعيد.

رمزية الطبيعة في الحرب

أبو صلاح استخدم عناصر الطبيعة ليصف الحب: النسيم، قامة البان، الدموع. لكن هذه الرموز نفسها يمكن أن تُقرأ الآن بوصفها رموزاً للحرب:
• النسيم صار رياح النزوح.
• قامة البان صارت رمزاً لوطن مهتز.
• الدموع صارت شهادة على الفقد الجماعي.
هكذا تكشف الحرب قدرة النصوص القديمة على حمل معانٍ جديدة، إذ تتحول رمزية الطبيعة من مجاز رومانسي إلى وثيقة واقعية عن الخراب.

الأغنية كمرثية وطنية

حين نعيد سماع «من قليبو الجافي» اليوم، نشعر أنها تجاوزت كونها مجرد أغنية غزل. هي مرثية وطنية تصف حال السودان: وطن مجروح بين الحرب والتهجير، وطن مسموم بصراعات السلطة والتدخلات الخارجية، وطن لا يسقط من قلوب أبنائه رغم النزيف.
بهذا تصبح الأغنية جزءاً من ذاكرة المقاومة، حيث يستحضر الناس نصوص الحقيبة ليس فقط للتسلية أو الطرب، بل لتفسير الواقع الأليم وإيجاد عزاء في كلمات الشعراء. بل إن البعض يرى أن استدعاء هذه الأغنيات القديمة هو شكل من أشكال المقاومة الثقافية، إذ يعيد للناس إحساسهم بالهوية والذاكرة في مواجهة محاولات الطمس والاقتلاع.

الأبعاد النفسية والاجتماعية

النص أيضاً يعكس التحولات النفسية للشعب في الحرب. الحيرة بين الجرح والسم تعكس ارتباك الناس أمام مستقبل مجهول: هل هناك أمل في توقف النزاع، أم أن السم سيظل يسري في العروق؟ الوفاء للحب يعكس رفض السودانيين لنسيان وطنهم مهما طال الغياب، فحتى الذين هاجروا يحملون في قلوبهم صورة السودان كحب أول لا يُمحى.
أما الدموع، فهي صورة جماعية بامتياز. لم تعد دموع العاشق وحده، بل دموع الأمهات، الشيوخ، الأطفال، والنازحين. وهي تمثل الحاجة إلى التوثيق العاطفي للمأساة، حين تعجز الكاميرات والأخبار عن نقل الألم كاملاً. هذا التوثيق الوجداني يصبح جزءاً من السردية الوطنية، إذ يحفظ للذاكرة الجمعية حقها في تسجيل الجرح.

الخلود عبر الزمن

قوة أغنيات الحقيبة، ومنها «من قليبو الجافي»، أنها قابلة لإعادة القراءة في كل عصر. فهي ليست مجرد نصوص عاطفية بل مخازن للرموز، يمكن للناس أن يعيدوا توظيفها وفق واقعهم. في زمن العشق الفردي كانت مرآة للقلوب، وفي زمن الحرب صارت مرآة للأوطان. هذا الخلود يثبت أن الشعر العظيم لا يموت، بل يتجدد كلما تغيرت الظروف، ويؤكد أن الثقافة السودانية قادرة على البقاء رغم العواصف.

أداء الفنانة زهرمان

أن أداء زهرمان لأغنية «من قليبو الجافي» إما يحافظ على اللحن التقليدي أو يضيف لمسات محلية ومعاصرة عبر الآلات والإيقاعات. كما قد تركز في غنائها على بعض الأبيات المؤثرة وتضخّم الجانب الحزين، خصوصًا في مقاطع مثل: «هل دا جرح بالغ أم دا سم ثعبان» و«قلبي لا يسلاك ولا يطيق نكران»، مما يمنح النص قوة عاطفية أكبر.

«من قليبو الجافي» ليست مجرد أغنية من زمن الحقيبة، بل هي وثيقة وجدانية قابلة للتجدد في كل عصر. في زمنها الأول كانت غناءً للحب الفردي، وفي زمن الحرب السودانية بعد أبريل 2023 صارت مرثية لوطن بأكمله. إن قدرتها على التعبير عن الأوجاع الجماعية تجعلها شاهداً على مأساة السودان المعاصرة، وتمنحها مكانة خاصة في سجل التراث الغنائي السوداني.
الأغنية اليوم تقف كجسر بين الماضي والحاضر: بين شاعر عاشق يتساءل عن جرح قلبه، وشعب يتساءل عن جراح وطنه. إنها درس في أن الكلمة الصادقة تتجاوز حدودها الأولى، وتظل حيّة في القلوب مهما تغيّر الزمان. ومثلما لم ينسَ العاشق حبّه، لن ينسى السودانيون وطنهم، حتى لو جُرح جرحاً بالغاً أو سُمِّم بسمّ الحرب. سيظل السودان محفوراً في القلوب، مرسوماً في الدموع، شاهداً على حب لا يموت.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *